عم بنكهة أَبٍ .. / تمارا سمير البغدادي

عم بنكهة أَبٍ ..

كنت في حالة من الإنكار حين وردني ذلك الاتصال المشؤوم ، كنت قد حاولت إقناع نفسي وقتها بأنها مزحة سمجة ، فما كان مني إلا أن قدت مركبتي وأنا أقنع نفسي طوال الطريق بأنك بخير وأنك في منزلك إلى أن اقتربت من المستشفى ، بدأت برؤية مركباتهم واحدة تلوى الأخرى .. بحث عقلي عن مبرر ما لما يحدثُ و قلتُ في نفسي : ” ربما هي مركبات مشابهة ” ، وما إن أوقفت مركبتي حتى رأيتهم هناك مجتمعين متفرقين عند مدخل المستشفى ، و مع ذلك فقد رفض عقلي التصديق ؛ فلعلك قد تعرضت لوعكة صحية .. نعم هذا هو سبب وجودهم .
استجمعت قواي وترجلت من مركبتي وأنا كلي ثقة بأنك على ما يرام ، ولكنني عندما اقتربت منهم لم أجرؤ على السؤال عنك، أخبرتهم بأني أريد رؤيتك وحسب ، لم يكن على لساني سوى هذه الكلمات ، ما زلت أشعر بذلك الزلزال الذي كان يعتمرني فكل جسدي كان يتصدّعُ على الرغم من احتضانهم لي .
عدت بالذاكرة عشرينَ عاماً .. إلى اليوم الذي فُجعنا به بوفاة عمي قاسم ، عندما كان نفس هذا الزلزال يعتمرني إلى أن ضممتني إلى صدرك بقوة فما لبثت أن سكنت روحي وهدأت نفسي ؛ لأستيقظ من هذه الذكرى عندما أخبروني بأن علي إخبار والدي بفاجعتنا، أيعقل أنهم لا يعلمون مدى ثقل هذه المهمة التي أوكلوني إياها؟! كيف لهم أن يطلبوا مني – أنا تحديداً – مثل هذا الطلب ؟ كيف لي أن أنقل له هذا الخبر وأنا أعلم يقيناً أن خبراً كهذا قد يحطمه ؛ فأنت رفيق الدرب وتوأم الروح و الأخ والأب وعميد العائلة ، كم تمنيت أن يتوقف بي الزمن ويعود بي إلى الوراء بضع ساعات ؛ فأنا لمْ أستوعِبْ تقبل فكرة وفاتك ، لمْ أستوعِبْ تقبل عدم وجودك وعدم الاستماع لأحاديثك المطولة .. وتقليب الصور ومشاهدة الفيديوهات العائلية معك و سماع تعليقاتك عليها… لا أستطيع تخيُّل أن لا تشاركنا في مناسباتنا ؛ فلطالما كنت السبًّاق في كل مناسبة، من سيروي لي الأحداث التاريخية في كل مرة أزوره فيها عن إمارة شرق الأردن؟ من سيحدثني عمّا حدث إبان الحرب العالمية الثانية ومعاهدة فرساي والحرب الأهلية الإسبانية و وعد بلفور؟ عن حلف الناتو وحلف وارسو ؟ كنت تعلم اهتمامات كلٍّ منّا وتحدثنا بناء على معرفتك بما يثير اهتمامنا، لا أذكر أني قد مللت يوماً من الحديث معك ؛ فقد كان في جعبتك الكثير لتقوله، كنت موسوعة طبية علمية قانونية اقتصادية و سياسية ، صاحبَ ذاكرة فولاذية ، ذا حديث شيقٍ لا تهملُ أيّاً من تفاصيله، كنتَ صاحبَ ابتسامة عذبة وضحكة متزنة آسرة .
أنت .. يا من كان يُضرب بك المثل في القوة والعزيمة والصلابة ، كيف استطاع الموت أن يهزمك ؟ كيف لقلبك القوي أن يستسلم ويتوقف بهذه السهولة دون أن يحارب بكل ما أوتي من قوة ؟ كيف استطعت أن تتركنا دون أن تهيّئنا لمثل هذا اليوم ؟ كيف لك أن تتخلف عن حضور العيد معنا ؟ وأنت المنظم الدقيق في مواعيدك ، كنت دائماً من يفتح الباب لاستقبالنا والترحيب بنا .. فكيف لك أن تكسر هذا التقليد وتتخلف عن حضور العيد معنا ؟!
البعض كان في عيونهم حَيرة وهم يعزُّوننا .. كيف لنا أن نفجع بك إلى هذا الحد ! هم لا يعلمون كم استغرقتَ و إخوتكَ من جهد لتزرعوا هذا الترابط والتلاحم فيما بيننا ؛ فكلنا – أولاد محمود و منير و قاسم و خالد و سمير و صلاح و بدر و سميرة – لم نشعر يوماً بأننا أولاد عمومة ؛ فنحن إخوة نفرح ونحزن مع بعضنا .. و لبعضنا ، لم يستطع أحد التفريق فيما بيننا ، حتى صارَ المثلُ يُضرَبُ في محبتنا ووحدتنا ؛ أذكر دهشة زوجي الكبيرة بعلاقتنا الفريدة من نوعها و في احتضانهم له كفرد جديد في هذه العائلة ، لقد نسفتم النصف الأول من مقولة ” أنا و أخي على ابن عمي” وأبقيتم في عقولنا : “أنا و ابن عمي على الغريب”..
نعم لقد جاوزت التسعين عاماً ، لكننا لم نرَكَ إلا شاباً في مقتبل العمر، رياضيَّاً مُهتمَّاً بصحتك وبنظامك الغذائي ، مواكباً لكل تطورات العصر، مفعماً بالحياة تعشق السفر…في عينيك ألقٌ و إصرار على مواصلة العطاء الذي فقدناهُ في عيون كثير من شباب هذه الأيام، لم تعرف اليأس أبداً ولطالما أدهشتنا قوتك وصلابتك، كنت تجمع بين النقيضين ؛ ففي حضنك وقبلتك حنان طيَّب القلوب ، و في قوة شخصيتك جبروت أصلبِ الرجال، منظم تهتم بكل التفاصيل و بالجميع، تُرى .. ماذا سيحل بكل البيوت التي كنت تدعمها بمالٍ و بسمةٍ و دعاء ؟ لقد كنت عزيز النفس سخياً حتى بعد وفاتك ؛ فأنا لم أحضر عزاءً يقوم المتوفى بالإيلام عن روحه “واجب عزاء أبو عصام لأبي عصام” ..أإلى هذا الحد لم ترغب بإزعاج أي منا حتى رتبت لمراسم عزائك بنفسك وحرمتنا تقديم أقل ما يمكن تقديمه إلى روحك الطاهرة؟
أشعر بروحك تحوم حولنا تربّتُ على ظهورنا و تمسح دموعنا وتطبع قُبلة على جبهة كل فرد منا، كم أتمنى تقبيل يديك وضمك إلى صدري وتوديعك وأنت تقف أمام باب منزلك لتقول لي : “مش اتطولي الغيبة يا هيلمجية” لأبتسم وأنا أومىء لك برأسي و أتمتم “حاضر حبيبي”..
أنا هائمة أشعر بالضياع و قد فقدت قطعة من روحي ؛ فمنذ وفاتك وأنا لا أستطيع أن أصل إلى وجهتي دون ضياع ؛فأجدني قد وصلت إلى أماكنَ لا أعرفها في كل مرة أركب فيها مركبتي ، لعلها أماكن كانت مقربة إلى قلبك وأنت من قدتني إليها ، أو أنني قد وصلت لحالة من عدم التوازن الروحي والفكري بعد فقدانك !
فاجعتنا بك كبيرة ومصابنا جلل ، نحن لم نفقد عمّاً ، لكننا فقدنا جدّاً وعمّاً .. بنكهة أبٍ ..

twitter@tamaralbaghdadi
tamaraalbaghdadi@outlook.com

مقالات ذات صلة
اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى