لغتنا الجميلة

#لغتنا_الجميلة

د. #هاشم_غرايبه

من يحب اللغة العربية، يجد ضالته في القرآن الكريم، فهو محيط هائل من البلاغة في المعنى، والجمال في المبنى.
مما أبهرني دلالات استعمال الفعل الماضي والمضارع في قوله تعالى: “وَمَنْ يَشكرْ فِإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفرَ فِإنَّ اللَّهَ غِنيٌّ حَمِيدٌ” [الروم:44].
نلاحظ أن الشكر هنا ورد بلفظ المضارع (يشكر)، فيما ورد الكفران بالفعل الماضي (ومن كفر).
إن من روائع النحو في اللغة العربية أن أي تغيير في بناء اللفظة أو موقعها، يؤدي معنى خاصا آخر، فعندما يسبق الفعل الماضي بأداة شرط يتحول الى فعل مستقبل، مثال: (إذا جاء نصر الله والفتح)، فالفعل الماضي (جاء) أصبح يعني (عندما يجيء)، أي أن النصر والفتح استقبال منتظر مؤكد الحدوث، لكن موعده غير محدد، ولو كانت أداة الشرط (إن)، فإنها حينئذ تعنى توقع الحدوث، وقد يحدث الحدث أو لا يحدث.
كما أن الفعل الماضي بذاته يدل على إخبار بوقوع حدث، والذي وقع مرة وانتهى وقوعه، أي أنه غير مستمر الحدوث، لكنه قد يكون قابلا لأن يحدث من جديد إذا سبقه أداة شرط، مثل : من جدّ وجد ومن زرع حصد، فهنا لم يعد الفعل الماضي يعبر عن فعل وقع في الماضي وانتهى، بل عن فعل قد يحدث في المستقبل كلما توفر شرطه.
لكن يبقى التساؤل عن الحكمة في ذكره تعالى الشكر بصيغة المضارع فيما الكفر بصيغة الماضي، وماهي دلالة اختلاف الزمنين للفعلين مع أنهما شرطيان، ومرتبطان بحالة واحدة وهي اختيار الإنسان واحدا من خيارين؟.
يقول الدكتور فاضل السامرائي في تفسير هذه المسألة، انه من تتبعنا للتعبير القرآني نجد أنه إذا جيء بالفعل الماضي بعد أداة الشرط، فذلك الفعل يُفعل مرة واحدة أو قليلا، وما جاء بالفعل المضارع يتكرر فعله.
مثال على ذلك في حكم القتل الخطأ، إذ يقول تعالى:” وَمَنْ قتل مُؤْمِنًا خطًأ فَتَحرْيرُ رَقبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَة مُسَلَّمَة إَلى أهْلِهِ إلَّا أن يَصَّدَّقُوا”، ثم بعدها في الآية التالية لها حكم القتل العمد: “وَمَنْ يقتُل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدًا فِيهَا “[النساء:92-93].
فعندما ذكر القتل الخطأ جاء بالفعل الماضي لأن هذا خطأ غير متعمد، إذن فهو ليس معتادا، بل يحرص مرتكبه على أن لا يحدث مرة أخرى، لذا فهو لا يتكرر، وعندما جاء بالقتل العمد جاء بالفعل المضارع) ومن يقتل)، لأنه ما دام يتعمد قتل المؤمن فكلما سنحت له الفرصة فعله، فجاء بالفعل المضارع الذي يدل على التكرار.
ولأن كل عمل للمرء يفعله يريد الثواب، فهو إذن يتكرر ،والشيء المتكرر جاء به بالمضارع يشكر، فالشكر يتكرر لأن النعم لا تنتهي، فكلما أحدث الله لك نعمة وجب عليك أن تحدث له شكرا.
كما أن الكفر قرار عقلي تحدده القناعة الثابتة المستقرة، فلا حاجة الى تكرار، أما الشكر فيحتاج إلى تكرار لأن النعم لا تنتهي.
وفي ذلك إشارة إلى أن الشكر ينبغي أن يتكرر وأن الكفر ينبغي أن يقطع، فخالف تعالى بينهما في التعبير، فجاء بأحدهما في الزمن الحاضر الدال على التجدد والاستمرار، وجاء بالآخر في الزمن الماضي الذي ينبغي أن ينتهي.

أما لماذا جاءت حالة الشكر مسبوقة بإنما، التي تفيد الحصر: (فِإنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ)، فلكي تؤدي المعنى من أن المنتفع من جزاء الشكر هو صاحبه حصراً، فالله سبحانه لا يزيد ملكه شكر الشاكرين، ولا تنقصه معصية العاصين.
لذلك جاء بعدها: “فِإنَّ اللَّه غِنيٌّ حَمِيدٌ”، بجمع هاتين الصفتين الجليلتين ونسبتهما الى ذاته العلية، فالغني هو المكتفي بذاته غير المحتاج لغيره، والحميد تعني المحمود على وجه الدوام والثبوت.
والكمال يقتضي جمع الصفتين معا، لأن الغنى البشري مكتسب، لذا لا يرافقه عطاء بمستواه، خوف زواله، فلا يكون الغني هنا محمودا، بل محسودا على غناه، ممقوتا لبخله.
أما غنى رب العالمين فهو أصيل متحقق من كونه مالك كل شيء ملكية مطلقة، فلا ينقصه إنفاق ولا يتلفه عطاء.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى