[review]
كما هي قرى حكايات الطفولة ..كانت قريتنا تقع على جبلٍ بعيد بعيد ..وكما يحدث في حكايات الطفولة ..كان يسكن قريتنا عبده النور ..عبده النور كان أسطورة حارتنا ..رجل المعجزات الذي كانت ترتفع إليه قاماتنا القزمة كلما مرَ شامخاً ..لم يكن عبده النور يتواجد في القرية دائما ..كان يغيب أياما كثيرة وأحيانا كان يغيب الشتاء كله ,ليعود بعدها بحكايا وأساطير ما كانت طفولتنا لتكتمل دونها ..
كنا أطفال وكان أسطورتنا ..كان يجيءُ خبرُ قدومه علينا قبل نصف ساعةٍ من وصوله ..فتيان حفاه يركضون من بعيد ..يسابقون ريح القرية العجوز زافين لنا بشرى قدومه ..يا بشراك يا بشراك ..تتزاحم الأجساد الصغيرة حول الجسد العملاق ..ويبدأ عبده النور بالتباهي بما لديه من خبايا وأسرار أحضرها من قرى بعيدةٍ قد تكونُ وراء الشمس ..كان يتسلق أعلى الشجرة الكبيرة في وسط القرية ولم يكن غيره يستطيع فنتحلق حوله كفراشاتٍ تبحث عن النور ولا تكاد تصله ..لقد كان نور طفولتنا لذا كنا نتبع إسمه دائما بلقب النور ..عبده النور ..وكانت الحكايا التي تلي غيابه تماما بروعة تلك التي يقصها وربما أكثر ..حتى أن قصة كانت تدور بيننا جميعا في الخفاء عن حكايته مع البحر وكيف انه وقف أمامه وتحداه يوما كامل حتى غلبه ..منذ ذلك الوقت والبحر يستقبل عبده النور في الأحضان ويلقي عليه الهبات والعطايا ويأخذه على ظهره إلى أبعد الأماكن ويريه كل الأساطير التي عرفها مذ أوجده الله على الأرض .
يحدث انَا كبرنا وأنه على عكس حكايات الطفولة التي يظل الأطفال فيها أطفالا ..كبرنا ..صارت أجسادنا ضخمه وقاماتنا طويلة ولم نعد نرى عبده النور على تلك الدرجة من الطول ..أصبح بإمكان جميعنا أن نتسلق الشجرة الكبيرة في وسط القرية .. وخرج الكثير منا إلى أماكن أبعد من حدود القرية البعيدة .لم يعد عبده النور مخلوقا سحريا كما كنا نظن ولم تعد أقدامنا تهلهل راكضة لاستقباله ..لا أحد منا يعلم متى يأتي ومتى يغادر وقد تمر شهور طويلة دون أن يأتي احدنا على ذكره ..إذا مر إلى جانب أحدنا مر كمهرج أعرج بملابس باليةٍ عفنه ..كيف لم نكن نرى كم هي باليةٌ ملابسه ؟؟!!! وكيف يصاحب البحر ولا يكسوه بالعطايا التي كنا نتحدث عنها ؟؟
يغيب عبده النور كما تغيب أشياء كثيرة مع طفولتنا ..يصبحُ ذكرى ساذجة لا تحمل وقعاً قوياً ..لكنه ابتسامته إذا ما مر إلى جانبي تستفز بقايا الطفل في داخلي وتحرك ذكريات بعضها كان وبعضها لم يكن إنما يخلقها حنيني ..كنا نؤمن بهذا الرجل ..نؤمن به حد الجنون ..كم أفتقد أن أؤمن بأحدهم اليوم كما آمنت به بالأمس !!من الصعب أن تؤمن بشيء بعد أن تكبر من الصعب جدا ان تنظر إلى أحدهم فتحس بهالة النور التي كنا نراها تحيطه ..يؤسفني أن يأتي أولادي غداً إلى عالم ليس فيه عبده النور ..كان سيكون جميلا جدا لو أن طفولتهم تختلط بخرافةِ رجل النور..لو ان أقدامهم تتعرى راكضةً إليه ..ويكبرون على حلم أن يصلوا أقاصي الأرض التي وصلها …ولا يخيفهم ركوب البحر كما لم يكن يخيفه أبداً
حنين احمد عماوي