وداعاً مهيباً ….. / ماجدة بني هاني

وداعاً مهيباً …..

لم يكن عمر يدرك معنى مناجاة الأموات إلا حين بلغ أرذل العمر !
حينما طالت المسافة بينه وبين الحياة ، وأصبح حبله الموصول بالموت ذائباً متقطعاُ ….
صحيح أنه سافر كثيرا ولكنه قرر آخر المطاف أن يسكن في منزل ريفي عتيق يتاخم سور المقبرة …لعله آثر أن يستقر إلى جوار رفات الأحبة ، حين يجلس كل يوم على حافةالعمر ، على شرفة الزمن يستعيد شريط ذكرياته .

القرويون يدفنون موتاهم بين البيوت ، فتتشاكل كثيراً عناصر الموت والحياة ، وتفقد بعض المعاني قيمها ، كثيرا ما تصير بعض القبور المعلاة مسارح للعب الأطفال ، وطالما تشربت أنوفهم الصغيرة روائح الجثث الحديثة العهد..
ياالله كم مر العمر قصيرا !!
قالها عمر بأنة طويلة بلغ صداها المدى ، وتلجلجت فيما تبقى من عظام هيكله الذي لا يكاد يحمله ..
تلك منازل الأحبة ، وأملا واسعا وطلة آسرة أودعتها ذات ظهيرة في قلب ذاك الثرى ،آه يا ولدي ، ليتني كنت مكانك !!
في هذه اللحظة فقط تجلت صورته وهو خارج من قلب تلك المعركة ذليلا مهزوما حين آثر الفرار ، في الوقت الذي شهد فيه مصارع القوم .
الآن تأكد أن روحه التي كان مقدورا لها الفراق بصحبة ربعه من رفقة السلاح ستودع في ولد من صلبه ،وأنه بعد بضع سنين سيشهد انتزاعها حين أتته جثة ولده مسجاة ….
المكان : كتيبة جيش اردنية
الزمان : الثمانينيات
المناسبة ؟ أداء الواجب العسكري ببسالة وحزم واقتدار .
أمعقول يا ولدي ؟ أن أورثك الرجولة حين وصمت بفقدانها ؟
أودعتك الله الذي لا تضيع ودائعه …..
ما زال عمر بين مصدق ومكذب ….ما زال مدهوشاً من تصاريف القدر ،ولكن لا بد من الإيمان بأن ما هو مقدور سيحصل وأن كثيرا من المعاني والأشياء لا نعرف قيمتها إلا حين نفقدها ….
على مرمى البصر كان وداعاً مهيباً ،وزفة عسكرية ، وجوقة عزفت لحن الرجوع الأخير ، ومن ذلك الوقت ما زال الجيش يودع قتلاه بجنائز مهيبة ، لا ضير لو كانت صورية تساق فيها توابيت شبه فارغة ، لأجزاء متفحمة أو فتافيت لأشلاء مختلطة بطين الأرض ، يحار فيها اللبيب….والمنايا على قيود مجهولي الهوية ، لا ندري لماذا وكيف قضت نحبها ….المهم أن تطلق ثلاث رصاصات ويعزف اللحن ، وما زلنا يا ولدي في انتظار الرجوع الأخير !!

دكان القرية …

مقالات ذات صلة

سلامة ، سليم ، سالم ،سويلم …..تلك الأسماء كان يُعرف بها أبناء الطبقة الكادحة ،والنساء لا تعد أبناءها إلا حين يتجاوز الطفل عامين ،بعض النساء كن ينذرن ما في بطونهن ليعيشوا، عانى الأهل كثيراً من الفقر والمرض ،كانت الحصبة فرعون ذلك الزمن ، تقتنص فلذات الأكباد، والأهالي يبتهلون لإبقاء البنين؛ فالكثرة والحاجة لمن يعمل في الأرض منهجا للحياة عندهم ، عبد الله ، هبة الله ،عبد النبي ،عبد الرسول كانوا نتائج تلك النذور …

طائل ، نائل ، صايل ، كايد وهايل ..أسماء أيضا لها مدلولاتها…
لم يكن أبو طايل ( صاحب الدكان الوحيدة في القرية) إلا حراثاً يعمل طوال العام في حراثة أراضي الملاك هو وأبناؤه وزوجته فقط على مؤونة بطونهم .

اغتنى أبو طايل بين عشية وضحاها ،تضاربت الأنباء في سر اغتنائه ولا يعلم أحد للآن اليقين ، على الأرجح : إنه وجد دفينة في إحدى الأراضي التي عكف على حراثتها ذات موسم ..
في الشمال الآردني شاعت أنباء كثيرة عن وجود دفائن في الأراضي والكهوف النائية ، قيل أن أغنياء العثمانيين تركوها أبان الحرب العالمية الأولى على أمل العودة واستردادها ولكن فوجئوا بالثورة الكبرى ، وانقلاب موازيين السياسة وانقطعت صلاتهم بالمكان فخسروا كل شئ .
كانت الدفائن تحتوي مئات الليرات العصملي والسبائك الذهبية ، كان من يجدها يولد من جديد ، ويعلن الكفر على قيم الفقر …
أتعلمون ماذا يعني أن يكون في القرية دكان وحيدة ؟
أصبحت أم سلامة أم طايل بين عشية وضحاها ،وانتقلت من لبس المدرقة البسيطة المرقعة المعفرة بالتراب إلى لبس الذهب والحرير …وارتفعت نبرتها بين النسوة ، وأطلقت لرحمها العنان ، فلا حسابات بعد اليوم ….وأصبح لمسميات الأطفال هيبة وسطوة ، هيبت وحكمت ورفعت ونشأت وشوكت هم مولودو العصر الجديد….
حينئذ أطلق أبو سلامة يده في أهل القرية ….
بعض الفقراء إذا اغتنى =والعياذ بالله =يحارب الله …
فيوغل في الربا ويستولي على أراضي الغير بحجة استرداد الديون ، يقايض ويتاجر ويعرف جميع أسرار القرية ….
ذات مساء جاء أبو سعيد ليقايض السمن بالصابون ، لمز أبو طايل في المسامرين من أصحاب الثروة وغمز ..نيالك يا عم ، ضحك وسع شدقيه وقهقهه الحاضرون ….والمسكين ساذج للغاية ، غافل في ملكوت الله …

اعتاد عمر الحضور إلى السمر عند أبي طايل وقت الإجازة ، محضراً معه صنوف التبغ الأجنبي الذي يتم تهريبه من ثكنة الجيش ، يبيعه أبو طايل بثمن مرتفع ، في حين كان أهل القرية يزرعون التبغ حول البيوت ، ويجعلونه في لفائف ، لفائف بسيطة لكنها تفي بالغرض ، وظلت الدكان مقصد الجميع لاحتوائها على كل شئ ،كل شئ بلا استثناء حتى قصص البشر ،وبساطة الفقراء ،وخبث بعض الأغنياء ، كانت الدكان شاهدة عصر على حقبة شهدت نقلة نوعية في نمط الحياة ، وانتقال البشر من حال إلى حال .ولكنها بالنسبة لعمر كانت شيئا مختلفا فقد كانت منها بدايته ،كانت لعمر بداية عمر جديد.

اظهر المزيد
زر الذهاب إلى الأعلى