قراءة في فكر نصر حامد أبو زيد (٢)
عبدالرحيم الزعبي
قد تكون فكرة هذه التدوينة غريبة بعض الشيء على العقل المسلم. وقد تمت الإشارة في التدوينة السابقة من هذه السلسلة إلى أن فكرة “تشكل النص القرآني في الواقع” قد يحتاج إلى تدوينتين، فالفكرة بحاجة إلى التعريف بها وإيجاد ألفة بينها وبين القارئ أولا، وهي ليست ألفة تحبب الفكرة إلى القارئ بل تكتفي بكسر دوغمائيته إن حضرت، وتعينه على تداول فكرة قد لا يرغب بالإيمان بها. بعد ذلك يمكن الانتقال إلى المحاججة التي قدمها المفكر نصر لتدعيم هذه الفكرة. وبذلك يمكن للقارئ أن يتفاعل مع المحاججة بالنقد، لا بالقبول والإذعان أو الرفض والمواجهة.
يعتقد نصر أن وظيفة الدين هي “تحقيق الوجود الإنساني الأمثل على الأرض”، وقد كرر استخدام هذه العبارة مرارا، وراوح بينها وبين عبارة “دفع الواقع البشري إلى الأمام”. ولأنه يعتقد أن الحضارة الإسلامية قد تمحورت حول النص القرآني فهو يرى أن النص القرآني هو الذي قام بهذه الوظيفة. لكن الخطاب الديني السائد يعتقد أيضا أن وظيفة الدين هي تحقيق الوجود الإنساني الأمثل على الأرض، وهو أيضا يعتقد بأن الحضارة الإسلامية قد تمحورت حول القرآن الكريم! وفي حالة كهذه يصبح من الضروري المقارنة بين نظرة المفكر نصر إلى النص القرآني ونظرة الخطاب الديني السائد إلى القرآن الكريم، وقد تعمد المدون استخدام التعبيرين (النص القرآني/ القرآن الكريم) كل في محله.
وقع في تاريخنا خلاف دارت رحاه بين المعتزلة وأهل الحديث، إلا أنه قد حسم لصالح أهل الحديث لأسباب تداخل فيها الاجتماعي والسياسي فتغلبت على الحوار الجاد.
يؤمن نصر بألوهية النص القرآني، لكنه يعتقد بأنه فعل إلهي. والفعل الإلهي حين يقع في هذا الكون فإنه يخضع للنواميس التي أودعها الله تعالى في كونه. وعلى سبيل المثال فإن هطول الأمطار فعل إلهي، لكن الله سبحانه وتعالى ينجز هذا الفعل من خلال نواميس مادية تتضمن التبخر ثم تشكل السحب ثم التكاثف. هكذا أراد الله تعالى لأمره أن ينفذ عبر نواميس خلقها، وهو القادر جل في علاه على إنفاذه عبر الكاف والنون. كذلك الحال بالنسبة للنص القرآني فهو، بحسب رؤية نصر، نص أراد الله تعالى به إصلاح مجتمع، وبالتالي فإن النواميس التي تحكمه كفعل إلهي هي النواميس الاجتماعية والتي تتضمن الزمان والمكان والواقع المعاش بما ينتظمه من أبنية اجتماعية وثقافية وفكرية. وبذلك فإن نصر يؤسس لقابلية النص القرآني للتأويلات التي تتناسب مع الواقع.
بينما يصر الخطاب الديني السائد، على تدرج طيفه، على أن الكلام الإلهي هو صفة من صفات الإله التام المطلق، وبالتالي فهو يحمل حكمته الأزلية وعلمه المطلق. وبذلك فإن ممثلي هذا الخطاب يغلقون الباب في وجه التأويلات التي تنطلق من الواقع، بحجة أن النص القرآني إلهي متعال يجب علينا أن نطوع الواقع لمحتواه ولا يجوز لنا أن نفعل العكس. وقد وقع في تاريخنا خلاف من هذا النوع دارت رحاه بين المعتزلة وأهل الحديث، إلا أنه قد حسم لصالح أهل الحديث لأسباب تداخل فيها الاجتماعي والسياسي فتغلبت على الحوار الجاد.
الخطاب الديني السائد يؤمن بأن الله قد أنعم على البشر بالقرآن الكريم الذي يمتاز بالكمال والتعالي على واقعهم، والذي يتضمن وصفة قادرة على إصلاح واقعهم.
وبجمع الفقرتين السابقتين يمكن القول أن الخطاب الديني السائد يؤمن بأن الله قد أنعم على البشر بالقرآن الكريم الذي يمتاز بالكمال والتعالي على واقعهم، والذي يتضمن وصفة قادرة على إصلاح واقعهم أيا كانت ظروفهم الزمكانية بمجرد اتباع تعاليمه وإرشاداته. بينما يؤمن نصر بأن الله تعالى قد هيأ ظروفا واقعية معينة قادت بمجموعها إلى تشكل نص يعبر عن الواقع ويصف مكوناته ويعيد ترتيبها بما يعين على دفعه إلى الأمام. وبالتالي فإن واجبنا النظر في واقعنا وفهمه كنقطة بداية، ثم الإقبال على النص القرآني والاجتهاد في فهمه وتأويله بما يعين على دفع واقعنا الاجتماعي إلى الأمام.
تسلسل نصر في حديثه عن ارتباط النص القرآني بالواقع تسلسلا منطقيا، فبدأ بوصف الواقع الاجتماعي زمن التنزيل وبين انتماء الرسول الأكرم لذلك الواقع، ثم تناول انتماء فكرة الوحي لذلك الواقع، وعرج بعدها على تناسب الإعجاز القرآني مع ذلك الواقع.
لدينا أطراف ثلاثة تشترك في عملية إصلاح الواقع بما لا يخرج عن السنن والنواميس الاجتماعية: الواقع والنص القرآني بما يحمله من خطاب إصلاحي، والرسول الأكرم.
على حد تعبير نصر، فإن المجتمع البشري يتكون من مجموعة من الاتجاهات التي تعبر عن قوى اجتماعية ورؤى وإيديولوجيات متباينة. وبحسب قوانين علم الاجتماع، فإن أي مجتمع بشري يكون فيه نمط سائد من القيم وفي مقابله صوت خافت يعارض ذلك النمط. ولئن سادت مجتمع التنزيل ممارسات جاهلية تتضمن الشرك بالله والظلم الاجتماعي والتفاخر بالأنساب والاستقواء على الغير بالعشيرة، فإن هناك اتجاها لم يكن يستسيغ تلك الممارسات، بل ويسعى لمناهضتها أو التعريض بها على الأقل. وقد كان الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام ينتمي إلى هذا الاتجاه الإصلاحي، وكان قس بن ساعدة الإيادي ينتمي إلى ذات الاتجاه.
أما بالنسبة للوحي، فهو فكرة تنتمي إلى ثقافة الواقع المعاش زمن التنزيل. ذلك أن العرب قد اعتقدوا بوجود عوالم أخرى مجاورة لعالمهم البشري. وبالتالي فإن عوالم الجن والملائكة هي جزء من ثقافتهم، كما أنهم آمنوا بإمكانية الاتصال بين أفراد من عالمهم البشري وآخرين من العوالم الأخرى رغم الاختلاف في الطبيعة والتكوين. وتعتبر الكهانة شاهدا على هذا الاعتقاد، فهي في الثقافة العربية اتصال مع الجن الذي يسرق خبر السماء ويوحي به إلى قرينه من البشر. وبالتالي فإن فكرة الوحي غير مفارقة لواقعهم، بل هي جزء من نظامهم الثقافي والفكري، وقد عبر نصر عن ارتباط النص بالواقع بقوله: “إنها رسالة السماء إلى الأرض، ولكنها ليست رسالة مفارقة لقوانين هذا الواقع بما ينتظم فيه من أبنية وأهمها البناء الثقافي، إن المطلق يكشف عن نفسه للبشر، يتنزل اليهم بكلامه عبر نظامهم الدلالي الثقافي واللغوي”.
أما بالنسبة لصياغة النص القرآني فمن الملحوظ أنه لم يكن بمعزل عن هذا النظام الفكري، فقد ذكر الجن في مناسبات عدة وخصص لهم سورة. إلا أن النص الذي تشكل من الواقع قد استخدم صياغات تعيد ترتيب مكوناته ليكون الحضور الإلهي مقدما على كل حضور، وليكون الحضور النبوي حضور المتصل بالخالق الحامل لمشعل النور والهداية، وليبدو حضور الجن خافتا (وذلك واضح لكل من يتلو سورة الجن). هكذا يعيد النص تشكيل الواقع لصالحه، هكذا وبهذه الطريقة الهادئة تارة، وبطريقة هائجة مائجة تارة أخرى. هناك ايضا علاقة بين سورة الناس وسورة الجن، فسورة الناس قد ذكرت الوسواس الخناس الذي نستعيذ بالله منه، بينما ذكرت سورة الجن كيف آمن الجن ودخلوا في الاسلام. وبذلك فقد غرس النص القرآني الأمل في قلوب المؤمنين بإحداث نقلة نوعية لصالح الإسلام.
بناء على ذلك يصبح لدينا أطراف ثلاثة تشترك في عملية إصلاح الواقع بما لا يخرج عن السنن والنواميس الاجتماعية. الطرف الأول هو الواقع المراد إصلاحه بما يتضمن من محتوى اجتماعي وثقافي وفكري، والطرف الثاني هو النص القرآني بما يحمله من خطاب إصلاحي، والطرف الثالث هو الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام الذي يعيش واقعه وينتمي إليه.
وفي ختام هذه الحلقة، يرجو المدون أن يكون قد وفق في نقل الأفكار بأمانة وفي عرضها بشكل واضح ومتسلسل، وللحديث بقية إن بقي في العمر بقية.