صحافةٌ مُرّة (قصة قصيرة) / وائل مكاحلة

صحافةٌ مُرّة
(قصة قصيرة)
ال له مدير التحرير:

– رائد.. أنت تكتب مقالات ساخرة رائعة، يا أخي أنا لا أتوقف عن الضحك وأنا أقرأ لك، لماذا لا أخصص لك عمودا يوميا ترفده بمقالاتك اللاذعة ؟!!

نظر رائد إلى قدميه سارحا، فحثه مدير التحرير على الكلام:

– قل لي لماذا يا رائد؟!.. أنت تعلم أن موهبتك تعجبني، وأنني لا أعترف لأحد بهذا بسهولة، ماذا الذي تشعر بأنه ينقصك هنا، أنا مسؤول أيضا عن راحتكم وإيصال أصواتكم إلى صاحب المؤسسة..

رائد ينظر له كمن على عينيه غشاوة لا يرى من خلالها أحدا.. كان ينظر نحو أفق أبعد من المدير بكثير..

– هل تعلم يا رائد؟.. أنا لا أستطيع أن أفهم الكتّاب الساخرين أبدا، لقد بدأت حياتي بكتابة مقالات سياسية واجتماعية، تطورت حتى جلست على هذا الكرسي لأجدني مسؤولا عن تقييم الكتّاب الآخرين وحمايتهم من شر أنفسهم حين تشطح بهم مواهبهم ليناطحوا بها السحاب، يُهيأ لي أنك في طريقك إلى هذا.. وأن الشطح بات قريبا جدا، أجبني كي أستطيع حمايتك حين تحتاجني، هذه معلومات ستفيدني حتما..

لمعت في عين رائد دمعة حبيسة جاهد كثيرا كي يحتفظ بها..

– إجلس يا رائد.. سيجارة؟.. لا؟.. حسنا.. في يوم ما كنت أعمل في مكتبك الحالي ما غيره، الأثاث هو ذاته لكن النافذة كانت تطل على مشهد أجمل من الحالي.. حيث لم يكن المعمار قد وصل إلى هذه الحدود، كنت أعيش مع الشخصيات التي أستخدمها لإيصال فكرتي تماما، كنت أغلق باب المكتب وأنظر بعيني إلى السيارات أسفل البناء لأتأكد ألا أحد يراقبني، ثم أبدأ بالتلويح بيدي غاضبا من حوار مفتعل أنوي أن أحشوه في مقالي، وأخاطب المسؤولين بلا أدنى احترام لصفاتهم الوظيفية التي تتحول إلى تكليف لا تشريف لهم داخل مكتبي المتواضع، لكنني كما قلت لك.. لم أكن من الكتّاب الساخرين.. بل الإنفعاليين، كنت أكتب عن أي شئ لا يعجبني وأرفع الكلفة تماما بيني وبين المسؤول، لكنني في النهاية أبيّض ما كتبت ليليق بجريدة تتحرى الحقيقة، لا تهاجم فقط من أجل الشهرة..

تنحنح رائد.. شعر المدير أن هذا تشجيع له لكي يكمل، فربت على كرشه الفخم ونهض عن مقعده وأخذ يدور في أرجاء المكتب الفاخر ملوحا بيديه مستذكرا بطولاته الغابرة:

– لكن هذا طبعا لم يكفني شر حقد الحيتان وكيدهم، شكاوى كثيرة قدمت بحقي لم تثنني عن المضي في الطريق الذي اخترته لنفسي أبدا..

ثم أشار إلى الكرسي الدوار الفاخر الذي كان يئن من ثقله منذ لحظات وهو يقول منتفخ الأوداج:

– فعلت كل ما هو جدير بالكاتب النمرود المتمرد، حتى وصلت إلى هنا بفضل إصراري ومثابرتي..

تنحنح رائد ثانية مقطبا في وجه المدير في رسالة واضحة: “ما المطلوب مني بالضبط؟”، فجلس المدير على المقعد المواجه له تماما وحدقا فيه بعينين لا تطرفان..

– أحيانا “وأقول أحيانا لا دائما”.. نضطر إلى أن نطأطئ رؤوسنا أمام العواصف يا رائد، هذا لا يعتبر خنوعا منا.. لكنه أسلوب كر وفر نواجه به غضب الكبار حتى تمر الريح بسلام فلا تقتلعنا من جذورنا، عندها نعود للمناكفة والمناطحة من جديد، هنا نشعر أننا أكثر قوة وجرأة وقدرة على القتال..

قلب رائد كفيه حائرا، فقال المدير متزلفا:

– مقالك الأخير حول الغش في المواصفات والمقاييس في مباني مديرية (…..) أثار حفيظة الكثيرين من حولك، لقد وصل بك الأمر إلى أن تتمادى في سبيل كشف حقيقة ليست من اختصاصك أصلا.. ماذا تفهم أنت في هندسة المباني وعطاءات الإنشاء، يا أخي هب أنك مسؤول نظيف اليد واجهت مقالا من أحد الصحفيين يتهمك فيه بأنك لص، أمام هنا طريقان.. إما أن تغضب وتطيح بمن يتهمك، أو أنك ستتحول إلى لص فعلا ما دام الناس غير شاكرين لنزاهتك !!.. ونحن لا نريد من يطيح بنا ولا نريد أن نحول الأبرياء إلى مجرمين بجرة قلم..

زفر رائد بحرقة، فربت المدير على كتفه وأوقفه محيطا عنقه بذراعه كأنهم أصدقاء وهو يقول كأنه يهدهد طفلا صغيرا:

– هيا إلى مكتبك يا رائد.. أريدك أن تصلح ما فعلت، حتى لو كانوا فاسدين فليس من مصلحتنا القضاء عليهم تماما..
فما دام هناك فساد هناك صحافة وهناك قراء
ومادام هناك قراء هناك إعلانات
وما دامت هناك إعلانات هناك معاشات ومكافآت..
هل فهمتني؟..
كل منا يقوم على الآخر يا صديقي…!!

تمّت بحمد الله

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى