
لغتنا الجميلة
المتأمل في قوله تعالى في الآية 40 من سورة التوبة: “وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَىٰ وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”، سيتساءل لماذا جاءت (كلمةَ) الأولى منصوبة، فيما جاءت (كلمةُ) الثانية مرفوعة مع أنها يفترض أن تكون منصوبة لو كانت معطوفة على الأولى.
إنه من أبواب الإعجاز البلاغي القرآني العديدة التي تبهر العقل، استخدام أساليب مختلفة في الإقناع المنطقي، ومنها ماهو مستخدم في هذه الآية بأسلوب المقابلة البلاغي، وهو المقارنة بين إرادتين هما إرادة الذين كفروا وإرادة الله، لكن شتان ما بين الأمرين، فالذين كفروا هم من مخلوقات الخالق، والمخلوق لا يملك أن يخالف إرادة الخالق، فلا يصح أن يوضع الطرفان عل كفتي ميزان المقارنة، ولذلك كانت إرادة الكافرين (كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا) في موقع مفعول به منصوب للفعل (جعل)، الذي هو فعليا فعل إرادة الله، ولم تأتِ (كَلِمَةُ اللَّهِ) معطوفة عليها بحرف الواو، بل هي مبتدأ مرفوع لأن الواو هنا ليست حرف عطف بل استئنافية، وهكذا استطاعت لغتنا العربية العظيمة خدمة هذا الغرض الجليل بالتمييز بين أمرين بعيدين عن التساوي هما إرادة الكافرين وإرادة الله فكان الموقع من الإعراب متوافقا مع الموقع الحقيقي ودالاً عليه، فشتان ما بين موقع المفعول به المنقاد لفعل الفعل، وموقع المبتدأ الذي يتقدم على كل ما سواه.
نلاحظ أن ما دلنا على كل ذلك الحركة الظاهرة على آخر الكلمة، وهي التي بينت موقعها من الإعراب، وهذه ميزة تنفرد بها اللغة العربية، فيتغير معنى الجملة تغيرا جذريا بتغير تلك الحركة.
لقد استخدم الله جل وعلا هذه الخاصية لغايات الإبهار البلاغي من خلال التقديم والتأخير، والذي قصد به أيضا التمحيص بقصد فرز المنافقين من بين المؤمنين، وكشفهم بسوء طويتهم، إذ يظن هؤلاء بالله ظن السوء فيبحثوا عن المعنى المعاكس لمراد الله ليثبتوه.
والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها قوله تعالى في سورة التوبة: ” أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ” فقد جاءت (رَسُولُهُ) هنا منصوبة، ولما كان المعطوف يعطف على ما سبقه، أي يفترض أن تكون معطوفة على (الْمُشْرِكِينَ) المجرورة بـحرف الجر (من)، لكنها ليست كذلك بل منصوبة لذلك فهي معطوفة على منصوب وهو هنا لفظ الجلالة (اللَّهَ ) لأنه إسم أن منصوب.
ولما كان التشكيل بإظهار الحركات على أواخر الكلمات زمن التنزيل غير معروف على الشكل الذي نعرفه، فقد أراد الله بهذا التأخير للمعطوف عن الإتصال بالمعطوف عليه، أن يكشف الذين في قلوبهم مرض، الذين سيقرأون الآية بحيث تكون (رسوله) بالكسر لتدل على أنها معطوفة على (المشركين) ، وبذلك يقلبوا المعنى المراد من الآية.
ومثل ذلك أيضا قوله تعالى في سورة فاطر: “إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ”، حيث أدى تقديم المفعول به على الفاعل عدة أدوار معا في آن واحد، فهذا التقديم رتبي أي بيّن التفاضل في رتبة الله على العلماء، وإضافة لذلك فقد جاءت الصياغة اللغوية بهذا الشكل أجمل وأبلغ بيانا من الجملة فيما لو كانت: (يخشى العلماء الله).
كما أنها ابتدأت بحرف التوكيد (إن) والذي إن اتصل به نفي (ما) يصبح أداة استثناء وحصر فيفيد معنى أن الذين يخشون الله هم الذين يعلمون فارتقى بهم علمهم الى معرفة الله، والذين لا يخشونه هم الجهلة أو ما نسميهم في عصرنا: أنصاف المثقفين.
وفوق كل ذلك فقد أراد الله أيضا تمحيص المنافقين بامتحان سوء نيتهم إن قرأوا الآية بجعل لفظ الجلالة (الله) فاعلا، والعلماء مفعول به، وبذلك يعكسوا المعنى المراد.
يقول الداعية الهندي “أحمد ديدات” رحمه الله، لقد زرت مصر، وفوجئت بقلة معرفة القرآن الكريم إلا لفئة محدودة، وعجبت كيف أن كثيرا من الذين أنعم الله عليهم بأن جعلهم عربا يفهمون لغة القرأن لا يقرأونه، وإن قرأوه لا يفقهوا معانيه.
“وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا”.