في ذكرى الرحيل والغياب ” وصفي التل المختلف المُؤتلف
قبل نيفٍ وأربعين عاماً ترجّل الفارس الشهيد وصفي التل، وبعد هذا الغياب ما زال الأردنيون يعيشون، وهم يحلمون بإمٍ تلد وصفي التالي، ولم تزل تراودهم أحلام “المنقذ” و”المخلص”، مما آلت وتؤول إليه أحوالهم، وحال البلد، فالمستقبل كما الحاضر، أمسى، حبيس الرهان والمساومة.
كان وصفي استثئانيا في أشياءَ كثيرةٍ. ولكن استثناءه الأكبر هو أن الأردن وهمومه وشعبه وأوجاعه، كانا يسكنان قلبه وعقله دائماً وابداً. وفي كل صفة أو سجية من سجاياه وصفاته، كان الأردنيون يعرفون من هو وصفي، وكيف تكون رجال الوطن.
وصفي السياسي أشهر من أن يُعرّف، ووصفي الوطني، هو المسكون أبداً بوطنه، ووصفي القومي كانت عقيدته فلسطين، واستعادتها من المستعمر الصهيوني، أما وصفي الانساني، فكانت تكفيه شيم الألفة والتواضع والبساطة في كل شيء، المأكل والمشرب والمسكن والملبس. كأي انسان أردني بسيط عاش وتربى في ربوع الوطن الفقير، ولكن الطموح إلى أبعد حد في عهده.
لقد مثل وصفي رجل الدولة بامتياز، في السياسية والحكم والإدارة والقيادة، امتلك مشروعاً وطنياً، حاول من خلاله أن يرسم خريطة مستقبل للأردن، ولكنه غادر قبل أن يتمكن من تحقيق حلمه، رحل وصفي والأُردنيون في مقتبل حلمهم، بأن يكون وطنهم كما يشتهون ويرغبون، لا كما يشتهي الكثيرون الذين يعرفون كل الأجندة الخاصة سوى أجندة الأردن والأردنيين.
عندما تصطخب الأحداث وتضطرب الأحوال في بلدنا ونكاد نفتقد بوصلنتا الوطنية، نعود إلى صاحب الذكرى لكي نستمد منه ونستلهم حدود هذه البوصلة لكن هذا لا يعني أن نبقى نستلهم الذكرى فقط، لأجل أن نتذكر وصفي، بل نحن أحوج ما نكون إلى إعادة بناء المشروع الوطني الذي عاش وصفي من أجله لأن هذا هو ما نفتقده على وجه الحقيقة.
عاش وصفي مع الأردنيين جميعهم، في بواديهم وقراهم ومدنهم، شمالهم وجنوبهم شرقهم وغربهم، فاستحق أن يكون لكل الأردنيين بلا تمييز أو استثناء.
ولكن أعظم ما يثير حفيظة الانسان الأردني، هو تلك الأصوات التي تخرج في كل وقت، من هنا وهناك من بعض الأردنيين. والتي ما زالت ترى أن الأردنيين غير قادرين على حكم أنفسهم بأنفسهم، وأنهم ما زالوا يعيشون عقلية القبيلة والتناحر والنزاع، فكأنهم ” عيال قُصر “، لم يبلغوا بعد سن الرشد الوطني والسياسي، الذي عليهم أن يتعلموه لأجيال بعيدة. وثمة هناك من يزعم أن الأردنيين لا يمكنهم أن يُجمعوا على شخصية وطنية.
لكن تجربة وصفي خير شاهد ودليل على زيف هذا الادعاء، فهو جزء من الدعاية السياسية والوطنية، لبقاء الحال على ما هو عليه. فكأن الأردنيات عجزن أن يلدن مثل وصفي، وعُقمن عن الانجاب بمثل شخصية وصفي الجامعة لكل الأردنيين.
لقد شبعنا من خرافات التقسيمات الجهوية والمناطقية والجغرافية، خرافات يجري تسويقها علينا، ويصدقها البسطاء والسطحيون، ويروجها المتنفعون والإقليميون.
فإذا لم يكن ثمة وصفي حاضر اليوم بين ظهراني الأردنيين، فليس أقل من أن ندشن ” المشروع الوطني” الذي حلم به وصفي، جامعاً للأردنيين، ومُخلصاً للبلد من همومه وأوجاعه ومشاكله.
هكذا نكون كأننا استعدنا وحدتنا الوطنية وكرسنا هويتنا الوطنية الجامعة.
د. عبدالله مطلق العساف