في الصميم

في الصميم
د. هاشم غرايبه

لطالما حيرتني مسألة وردت في كتاب الله العزيز، ولم أكن أجد لها تفسيراً، وهي متعلقة بقصة فرعون، وكنت أتساءل:
– لماذا أفرد الله لفرعون كل تلك المساحة في كتابه، فقد ذكرت قصته مع موسى عليه السلام في القرآن عشرين مرة؟.
– لماذا جاء إسم فرعون بالتنكير، وليس معرفا بأل التعريف كونه علما عاصر زمنا محددا هو بعثة موسى؟.
– والأهم من كل ماسبق لماذا شمل الله آل فرعون بالعذاب معه، وأفرد لهم عقوبة خاصة من دون خلقه، ، وهي أنهم منذ موتهم والى يوم القيامة، سيظلون يعرضون على النار يوميا مرتين لتذكيرهم بمصيرهم التعيس؟.
بحثت كثيرا ونقبت في كتابات الأقدمين والمحدثين فلم أجد ما يروي الغليل، لذا قمت ببحث مقارن بين النصوص، متبعاً منهاج الإمام علي رضي الله عنه، بأن آيات القرآن تفسر بعضها، وأن سياق النص في ما تشابه من آيات هو الدليل التفريقي على المعنى المراد.
فتوصلت إلى ما يلي:
1 – ان الله تعالى ما خص فرعون بسخطه الشديد ذاك لمجرد التكذيب برسوله وبآياته، فقد فعل أهل قريش أكثر من ذلك، فكذبوا برسوله الكريم وآذوه وحاصروه وحاولوا قتله، ورغم خروجه لم يتركوه مثلما ترك فرعون موسى في مدين سنيناً، بل لاحقوه وارادوا القضاء على دعوته بغزوة الأحزاب.
كما أن قريشا كذبت بالآية العظمى (القرآن الكريم) رغم قناعتهم أنه ليس ككلام البشر، وإعجازه باق دائم وليس مؤقتا كعصا موسى، ولم يتمكنوا من الإتيان بسورة واحدة من مثله، فهم أعظم مكابرة وتكذيبا بالله.
وليس ظلم فرعون للمؤمنين وتقتيله الذكور من مواليد بني إسرائيل هو الأشد وطئاً، فقد نكّل أصحاب الأخدود بالمؤمنين أكثر، فقتلوهم حرقا ومع ذلك وعد الله من تابوا بالمغفرة، وحاول نمرود العراق حرق ابراهيم حيا، ورغم ذلك فلم يتوعدهم الله بمثل ما توعد فرعون به.
2 – كل الأمم السابقة التي حق عليها العذاب، مثل قوم نوح وقوم عاد وقوم ثمود وقوم لوط …الخ، أهلكها الله تعالى بعذاب الدنيا، ولكنهم يحاسبون في الآخرة على أعمالهم، لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “إذا أنْزَلَ اللَّهُ بقَوْمٍ عَذابًا، أصابَ العَذابُ مَن كانَ فيهم، ثُمَّ بُعِثُوا علَى أعْمالِهِمْ”.، بينما فرعون وجنده أهلكهم الله بعذاب الغرق في الدنيا، ومع ذلك فقد حكم عليهم بالعذاب النفسي في القبر والجسدي في الآخرة، فهذا استثناء يجب أن يكون له مبرر.
3 – هنا نصل الى نقطة هامة، وهي لماذا التنكير بدل التعريف، فلم يحدده بفرعون معين، فكل حكام مصر كان يطلق عليهم مسمى الفرعون.
لذا نفهم مراد الله بذلك، فهو لم يتوعد الشخص الذي عاصر دعوة موسى فقط، بل كل شخص انتهج منهجه ومارس الفرعنة على عباد الله وحارب دينه، ولذلك لم يخصص الله شخصا محددا، فجاء بالتنكير للتعميم، ولبيان أنها سنة، وليست حالة تاريخية حدثت وانقضت.
4 – تبقى مسألة شمول العذاب لآل فرعون رغم أنهم أتباع مأمورون وقد يكون ما قاموا به ليس بملكهم بل بأمر الطاغية.
يجب أن ننتبه إلى أنه تعالى لم يقل “أهل فرعون”، فالأهل هم أفراد العائلة، والنسب ليس باختيارهم، وقد يكون منهم الصالح والطالح، فامرأة فرعون ذاتها كانت مسلمة.
أما الآل فهم الأتباع والمريدون، وهم كل من يؤيدون عمل فرعون ويعينونه على ظلمه، لذلك يستحقوا مثل ما يستحق: “النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ” [غافر:46]
وبما أن الله تعالى أنزل القرآن ليكون مرجعا للأمة لكل الأزمان، تأخذ منه الأحكام وتستمد من قصصه الدروس.
لذا نستخلص من تركيزه تعالى على قصة فرعون، لكي يدلنا على أهمية سنته الدائمة الباقية، وهي توعده لكل من (يتفرعن) على أمته وعلى عباده، فيقول: ان طريقتي هي المثلى ومنهج الله غير صالح للحكم، ويقسم الأمة شيعا، هذا إرهابي وذاك متأسلم وأولئك إسلاميون، للبطش بهم خدمة لأعداء منهج الله.
لكن الأخطر هم الذين ينفذون أوامره أو يؤيدون أفعاله، فأولئك الأخسرين أعمالاً، لأنهم يعتقدون أنهم لكونهم مسلمين سينجون، فهم من سماهم الله آل الفرعون، فمصيرهم لا يختلف: “وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِّنَ النَّارِ . قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَاد” [غافر:47-48].
هذا والله أعلم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى