فلا أقسم بالشفق

فلا أقسم بالشفق
الدكتور منصور ابوشريعة العبادي \ جامعة العلوم والتكنولوجيا الاردنية

أقسم الله عز وجل بظاهرة طبيعية تلعب دورا كبيرا في تحديد كثير من نشاطات البشر وعباداتهم وهي ظاهرة الشفق وذلك في قوله تعالى “فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16)” الإنشقاق. والشفق (Twilight or afterglow) هو حالة بين حالتي الليل والنهار من حيث درجة إضاءة سطح الأرض ففي حالة الليل يكون سطح الأرض في عتمة تامة وفي حالة النهار يكون سطح الأرض في ضياء تام. أما في فترة الشفق سواء قبل طلوع الشمس أو بعد غيابها فإن سطح الأرض يتم إضاءته بشكل جزئي وبطريقة غير مباشرة من أشعة الشمس المنعكسة عن طبقات الغلاف الجوي. لقد أراد الله عز وجل من خلال قسمه بظاهرة الشفق أن يلفت أنظار البشر إلي عجائب صنعه فيقوموا بالتفكر فيها وكشف أسرارها وليعلموا أن خالقا لا حدود لعلمه وقدرته يقف وراء خلقها امتثالا لقوله سبحانه “أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)” الأعراف. ويعتمد المسلمون على ظاهرة الشفق في تحديد بداية وقت الصيام وكذلك تحديد بداية ونهاية أوقات صلوات الفجر والمغرب والعشاء كما سنبين ذلك بالتفصيل لاحقا. ولقد حدد القرآن الكريم بداية الفجر الصادق أو ما يسمى بالشفق الفلكي في قوله تعالى “وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ” البقرة 187. وأشار رسولنا الكريم كذلك في بعض الأحاديث إلى وجود فجر كاذب يطلع قبل طلوع الفجر الصادق وقام بوصفهما بشكل بالغ الدقة مما يدل على أنه وحي من الله عز وجل حيث أن قليل من البشر من يصحو قبل طلوع الشمس بساعتين ليراقب ويرصد بداية ظاهرة الشفق.

يعرف الشفق (Twilight or afterglow) على أنه الضوء الذي يظهر في السماء من جهة الشرق قبل طلوع الشمس (sunrise) أو من جهة الغرب بعد غروبها (sunset). ويطلق اسم الفجر (Dawn) على الفترة الزمنية من بدء ظهور الشفق حتى طلوع الشمس واسم الغسق (Dusk) على الفترة من غياب الشمس حتى اختفاء الشفق. ويمتد ضوء الشفق بشكل أفقي حول مكان غروب أو شروق الشمس ويبدأ باللون الأبيض ثم يتحول إلى اللون الأحمر عند الفجر بينما يبدأ باللون الأحمر ثم يتحول إلى اللون الأبيض عند الغسق. ويعود السبب في ظهور الشفق إلى انعكاس وتشتت ضوء الشمس من طبقات الغلاف الجوي باتجاه الأرض ليضيئ طبقات الغلاف الجوي السفلية المجاورة لسطح الأرض في حالة وجود الشمس تحت مستوى الأفق. وتزداد شدة إضاءة الشفق لسطح الأرض وكذلك اتساعه الأفقي وارتفاعه في السماء كلما اقتربت الشمس من وقت الشروق أو وقت الغروب.

ولقد قسم العلماء زمن وجود الشفق إلى ثلاث فترات زمنية متساوية وذلك تبعا لمقدار ميل الشمس عن خط الافق قبل شروقها أو بعد غروبها. فالفترة الأولى تسمى الشفق المدني (Civil Twilight) وتبدأ في حالة الفجر المدني عندما تكون الشمس أسفل الافق بستة درجات وتنتهي مع شروق الشمس بينما في حالة الغسق المدني فتبدأ من غروب الشمس وتنتهي عندما تكون الشمس أسفل الافق بستة درجات. وأما الفترة الثانية فتسمى الشفق البحري (Nautical Twilight) وتبدأ في حالة الفجر البحري عندما تكون الشمس أسفل الافق باثني عشر درجة وتنتهي عندما تكون الشمس أسفل الافق بستة درجات والعكس للغسق البحري. وأما الفترة الثالثة فتسمى الشفق الفلكي (Astronomical Twilight) وتبدأ في حالة الفجر الفلكي أو الفجر الصادق (True dawn) عندما تكون الشمس أسفل الافق بثمانية عشر درجة وتنتهي عندما تكون الشمس أسفل الافق باثني عشر درجة والعكس للغسق الفلكي. إن طول مدة الشفق عند خط الاستواء (خط عرض صفر) يبلغ 72 دقيقة سواء عند الفجر أو عند الغسق وبهذا فإن طول فترة كل نوع من أنواع الشفق الثلاث هو 24 دقيقة وذلك على مدار العام تقريبا. ولكن طول فترة الشفق عند خطوط العرض الأخرى فإنه يزيد عن طوله عند خط الاستواء حيث يزيد مع زيادتها شمالا أو جنوبا. وكذلك تتغير مدة الشفق مع تغير الأيام والأشهر فيطول إذا ما طال النهار ويقصر مع قصره فعلى سبيل المثال فإن طول الشفق المدني عند خط عرض 50 شمالا القريب من حافة الدائرة القطبية يتراوح بين 33 دقيقة و 48 دقيقة بينما يبقى الشفق لعدة أسابيع داخل الدائرة القطبية التي تقع شمال خط عرض 66 شمالا أو جنوبا.

مقالات ذات صلة

يعتبر الشفق من حيث درجة إضاءة سطح الأرض حالة بين حالتي الليل والنهار فحالة الليل والتي تمتد من بعد نهاية الغسق إلى بداية الفجر يكون سطح الأرض في عتمة تامة ولا يمكن رؤية الأشياء إلا بوجود ضوء القمر أو الإضاءة الاصطناعية. أما حالة النهار فإن أشعة الشمس تضيئ سطح الأرض المقابل لها ويمكن رؤية الأشياء بكل وضوح حتى في الظلال وداخل المنازل ومع وجود الغيوم الكثيفة وصدق الله العظيم القائل “وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)” الإسراء. وفي فترة الفجر الفلكي والغسق الفلكي تكون الحالة قريبة من حالة الليل حيث يمكن مشاهدة جميع نجوم السماء ولا يمكن تمييز الأفق وهو الحد الفاصل بين السماء والأرض ولا معالم سطح الأرض إلا أنه يمكن مشاهدة الضوء الابيض للشفق في السماء فوق الافق ومعرفة الشرق من الغرب. وأما في فترة الفجر البحري والغسق البحري فتبدأ كثير من نجوم السماء بالاختفاء وتبقى النجوم اللامعة والكواكب وكذلك القمر ويمكن تميز حد الأفق والمعالم الكبيرة لسطح الأرض ولكن لا يمكن رؤية المعالم الصغيرة. وأما في فترة الفجر المدني والغسق المدني فإن جميع نجوم السماء تكون قد اختفت وتبقى الكواكب اللامعة وخاصة كوكب الزهرة والتي تسمى نجمة الصباح أو المساء وبالطبع القمر وفي هذه الفترة يكون لون الشفق أحمرا ويمكن تمييز كامل معالم الأرض ويمكن للبشر القيام بنشاطاتهم المختلفة.

يعتمد المسلمون على ظاهرة الشفق في تحديد بداية وقت الصيام وكذلك تحديد بداية ونهاية وقت صلوات الفجر والمغرب والعشاء. فقد ورد تحديد بداية وقت الصيام في قوله تعالى “وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ” البقرة 187 وكذلك في الأحاديث النبوية الشريفة كالحديث الذي رواه البخاري ومسلم عن عدى بن حاتم رضى الله عنه قال “لما نزلت حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر قلت يارسول الله انى أجعل تحت وسادتي عقالين عقالا أبيض وعقالا أسود أعرف الليل من النهار فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم إن وسادك لعريض انما هو سواد الليل وبياض النهار”. ولقد اتفق جمهور علماء المسلمين على أن الخيط الأبيض والخيط الأسود هما كناية عن عتمة الليل وضياء الفجر الفلكي أو ما يسمونه الفجر الصادق. أما نهاية وقت الصيام فلا خلاف بين جميع علماء المسلمين على أنه وقت غياب الشمس بناءا على الحديث الذي رواه البخاري عن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم”.

أما تحديد وقت كل من الصلوات الليلية وهي المغرب (دلوك الشمس) والعشاء (الغسق) والفجر فقد ورد بشكل عام في قوله تعالى “أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78)” الإسراء وقوله تعالى “وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)” هود. وأما تحديد بداية دخول وقت هذه الصلوات ونهايته فقد بينتها الأحاديث النبوية الشريفة كما جاء عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بن العاصِ رَضِيَ اللهُ عَنْهما، أنَّه قال: سُئِلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن وقتِ الصلواتِ، فقال: ((وقتُ صلاةِ الفجرِ ما لم يَطلُعْ قرنُ الشمسِ الأوَّلُ، ووقتُ صلاةِ الظهر إذا زالتِ الشمسُ عن بَطنِ السَّماءِ، ما لم يَحضُرِ العصرُ، ووقتُ صلاةِ العصرِ ما لم تَصفَرَّ الشمسُ، ويَسقُط قرنُها الأوَّلُ، ووقتُ صلاةِ المغربِ إذا غابتِ الشمسُ، ما لم يَسقُطِ الشفقُ، ووقتُ صلاةِ العشاءِ إلى نِصفِ اللَّيلِ)). وكذلك كما جاء عن أبي موسى الأشعريِّ رَضِيَ اللهُ عَنْه، أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أتاه سائلٌ يسألُه عن مواقيتِ الصَّلاة، فلم يردَّ عليه شيئًا، قال: فأقام الفجرَ حين انشقَّ الفجرُ،… ثم أمره فأقامَ العشاءَ حِين غاب الشفقُ،… ثم أخَّرَ المغربَ حتى كان عندَ سقوطِ الشفقِ، ثم أخَّرَ العِشاءَ حتى كان ثُلُثُ اللَّيلِ الأوَّلُ، ثم أصبح فدَعَا السائلَ، فقال: ((الوقتُ بين هذَينِ)). ويتضح من هاذين الحديثين أن وقت صلاة المغرب يبدأ من بعد غياب الشمس إلى ما قبل غياب الشفق ووقت صلاة العشاء من بعد غياب الشفق حتى نهاية الثلاث الأول أو النصف من الليل ووقت صلاة الفجر من بداية الفجر إلى ما قبل طلوع الشمس.

وقد أجمعت معظم المجامع الفقهية في العالم الاسلامي على أن بداية وقت صلاة الفجر هو بداية ظهور الشفق الفلكي أو الفجر الصادق من الشرق أما بداية وقت صلاة العشاء فهو نهاية اختفاء الشفق الفلكي أو الغسق الفلكي. وعلى هذا فإن المدة الزمنية بين بداية وقت صلاة الفجر وطلوع الشمس يساوي تماما المدة بين غياب الشمس وبداية وقت صلاة العشاء وهي 72 دقيقة عند خط الاستواء وبمعدل ساعة ونصف في معظم المناطق المأهولة شمال أو جنوب خط الاستواء. ولقد اعتمدت كل من رابطة العالم الإسلامي وجامعة العلوم الإسلامية بكراتشي والاتحاد الإسلامي بأميركا الشمالية ومجامع أخرى الزاوية 18 درجة تحت الأفق لكل من الفجر والعشاء وهي زاوية الشفق الفلكي. بينما اعتمد تقويم أم القرى الزاوية 18.5 درجة لدخول الفجر وساعة ونصف الساعة بعد المغرب لدخول وقت العشاء على مدار السنة. أما الهيئة العامة المصرية للمساحة فقد اعتمدت الزاوية 19.5 درجة لدخول للفجر والزاوية 17.5 درجة لدخول العشاء.

ولا بد من الإشارة هنا إلى وجود ما يسمى بالفجر الكاذب وهو يسبق الفجر الصادق ويسميه الفلكيون بالضوء أو الفجر البروجي (zodiacal light) وهو ضوء أبيض يظهر في السماء في مدار البروج على شكل عمود يمتد مستطيلا في السماء. ويتولد الضوء البروجي نتيجة لتشتت أشعة الشمس في الفضاء الخارجي بواسطة الغبار الكوني الذي تركته المذنبات فيما بين كواكب المجموعة الشمسية. ومن السهل التفريق بينهما فضوء الفجر الصادق يستطيل في الأفق جنوبا وشمالا حول مكان طلوع الشمس ويرتفع ويكبر ضياؤه في السماء تدريجيا أما ضوء الفجر الكاذب فلا يستطيل في الأفق بل يرتفع كذنب الثعلب في السماء ثم تعقبه الظلمة كما وصفه نبينا الكريم في عدة أحاديث نبوية. ففي الحديث الذي رواه مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا) وكذلك في الحديث الذي رواه الحاكم والبيهقي عن جابر بن عبدالله رضي الله عنه (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “الفجر فجران: فأما الفجر الذي يكون كذنب السرحان فلا يحل الصلاة ولا يحرم الطعام، وأما الفجر الذي يذهب مستطيلا في الأفق فإنه يحل الصلاة ويحرم الطعام”). ومثل هذه الوصف الدقيق لكل من الفجر الكاذب والفجر الصادق من قبل رسولنا الكريم لا بد وانه وحي من الله عز وجل فقليل من البشر على مر التاريخ من يصحو قبل طلوع الشمس بساعتين ليراقب ويرصد بداية ظاهرة الشفق.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى