عَنْهُنَّ أكتُب


عَنْهُنَّ أكتُب – الجزء الأوّل
عشوائيات في الحب – العشوائية 40
الدكتور سمير محمد ايوب

قبلَ إنتهاءِ موسم الربيع ، كُنتُ أعلم أين تكون في مثل هذا الوقت . أُسْريتُ إليها في التلال المحيطة بقريتها، في أعالي جبل شيحان ، شمالي الكرك . مهندسة متقاعدة ، أديبة بارعةُ الجمال ، سمراءُ مِنْ قومِ عيسى عليه السلام . بِعِشقِ الهاويةِ ترعى غَنَما لَها . وتَتريَّضُ في سهوبِ القمح هناك . تتأمَّلْ البراري المُطلَّةَ غَرْباً ، على غورِ الاردن والبحر الميت ، وعلى الفضاءِ النَّقيّ المفتوحِ أمامَها على مدِّ البَصر ، بإتجاه خليلِ الرَّحمن وجبالِها المُرَصَّعة بالعديدِ مِنْ قُرى فلسطينَ المُحتلة .
أوْقفتُ سيّارتي على حافّة طريقٍ زراعي ضيّق . ومَشَيتُ في طريق مُتعرّجٍ مسافةً ليست طويلة . حاولتُ تخفيفَ مَشاقّها ، بالتّلَهي مع أسرابِ فراشٍ مُلوّن ، يتراقصُ فوق سنابل القمح الذّهبية ، والإنصاتَ لخلطةٍ من الاصوات المُتجانِسة ، أبرزها لحسّونٍ عاشقٍ مُفارقٍ ، يتقافَزُ برفقتي من شجرةٍ على يميني إلى أخرى عن يساري . والكثيرُ من ثغاء خِرافٍ تُثَرْثِرُ مع بعضها ، ومنها نُباحٌ لكلبٍ كسولٍ ، خِلْته يَعوي وهو يتثاءب .
في الطريق إليها ، إلتَقَيتُ حَطّابَةً مُتَقدّمَةً بالسِّنْ . تحملُ حُزمةً من العاقولِ والنّتْشِ الجافّ على ظهرها . تسيرُ مَحنِيّة الظهرِ ، مُطأطأةَ الرأس ، مُتْعبةً من ثِقَلِ ما تَحمِل . حَيّيْتُها فتوقّفَت . أنْزَلَتِ الحُزمةَ لتستريح . مَسَحَتْ عَرَقَها بِكفِّ يدِها وهي تبتسمُ لي . سألتُها إنْ كانت تعرف أين المهندسة الراعية . إتسعت عيناها وتكوّرت شفتاها لدقيقة ، إبتسمت وأشارت وهي تقول : إنّها هناك . شكَرتُها وساعَدتُها على رفعِ حُزمةِ الحَطب على ظهرها . وما أن مضت الخالة الحَطّابة ، صوَّبْتُ اتجاهي . وتابَعتُ أغذُّ إليها الخُطى . رأيتُها من البعيدِ على كتفِ الوادي ، بجانب بئرٍ لجمع المطر . تستظلُّ بطانيةً كانت قد نَصبَتها على بعضِ أعواد الحطب ، بِمِدْرَقَة مُطرَّزةَ الصَّدرِ والأكمام . ألفَيتَها وقد لوّحَتْها الشمس بسمرةٍ ناعمةٍ مُحبَّبةٍ ، مُشتَبِكةً بحلقِ شعرِ ماعزٍ شاميٍّ أبيض ، بمِقَصٍ كبيرٍ تُمْسكُ به بيدها اليمنى ، ونسماتٌ عليلةٌ تداعب شعرَها . غنمها وماعزها من حولها . وأمامها إبريقٌ لإعدادِ الشاي ، يتململُ فوق جمرٍ ما زال طازجا . وكلبها الذهبي على يسارها ، باسطا يديه وهو نائم ، بجانب حمارها القبرصي الابيض الطليق .
ما أن رأتني أنهت عملَها . وقالت وهي تنتصبُ واقفةً : كلِّ الهَلا يا شيخي ، نوَّرَت أرنون وذيبان ، بل منطقة الكرك كلّها . أجلَسَتني قُبالَتها على جُرنِ ماءٍ محفورٍ في الصخر بجانب بئر الماء . وبعد أنْ قدَّمت ليَ كوبا من الشاي الساخن الداكن ، تناولَتْ كوبَها وهي تقول فرِحَةً : في ظلّ الكورونا ، ما توقعتُكَ أبداً هُنا . وأكمَلَت ، وإن حَدَسْتُ مُبكّرا ، أنّك قد تفطر معي هذا اليوم . فجهّزْت لنا إفطارَ رِعيان . ولكن قُلْ لي : ما الذي أتى بكَ يا رجل ؟!
قلتُ مُبتسما : قبلَ أنْ أجيبَك ، أسألُك وأنا أعلم أنّ إضافات الريف للوقت ، روعةٌ ليس كمِثْلِها شيء . أتأتينَ رغمَ الحجرِ إلى هنا كلّ يوم ؟!
وصوتُ نايٍ شجيٍّ يَتسلّل أنينُه مِنَ البعيدِ ، قالت : تنَبّهتُ فجرَ هذا اليوم ، على صوتِ الدّيَكة وجلبةِ الرّعيان ، فصحوتُ . وتجهّزتُ لمقاربة نهاري بنشاط . وما أنْ خَفتَت أجراسُ المِرياعِ والماعَزِ في الحارة ، تناولتُ كتابا وورقا وكمشة أقلامِ رصاصٍ ومِبراةً ،وصُرَّةَ الطعام ، واتجهت صوب طابونِ جارتي ، ألقيتُ التحية عليها ، وتناولت منها رغيفين ساخنين . ركبتُ حماريَ هذا ، وسرتُ امام القطيع أقوده ، حتى وصلنا بعد مسيرٍ طويلٍ إلى هنا .
تَعلمُ يا صديقي ، مُذ تزامَلنا في الجامعة الأردنية ، وفي وزارة الزراعة من بعدها ، أنّ في الريف مُفرداتٌ جميلةٌ بسيطةٌ مُتواضعة تُساكِنُ روحي وتسكنها . ورغم زحمة العصرنة وصخب الحداثة ، ما زالت بتفاصيلها تتخلل دهاليز ذاكرتي . كلّما ضاقت بي الحياة ، أفرُّ إليها أسرح وأمرح على سجيّتي . تُريحُني الطبيعةُ غيرَ المُلَوثَةِ ، وتضيف لحياتي الكثير من الروعة . أعيش حياتي هنا بلا فجوات. بعيدا عن جفاف المشاعر الافتراضية او الموهومة او الضبابية ، وبعيدا عن تيبُّسِ الذهنية الكَيْديَّةِ ، والغِلّ العابِثِ وتصفيةِ الحساباتِ العدَميّةِ هناك .
نهَضَتْ وأعادت مَلء كوبي بالشاي المُحَلَّى مُسبَقا على طريقة سميره توفيق وصبابين الشاي ، وسألَتني : وأنتَ يا شيخيَ ما الذي أسرى بك اليوم إلى هنا ، رغم المسافات وحظر التجوال؟!
قلت وأنا أضاحِكُها : تلك حكايةٌ أخرى يا سيّدتي ، سأرويها لكِ بالتفصيلِ المُملِّ ، ولكني جائعٌ والله ، هيّا نُجهِّز وجبةَ الرّعيانِ المَوعودةِ ، ومن بَعدها نُواصِلْ .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى