عندما توقفت الحياة / د. حازم المومني

عندما توقفت الحياة
رسالة إلى والدي في العالم الآخر

كأنما انفطرت السماء واعتلى العاشق المحب ألماً لا ينتهي.
كأنما توقفت الحياة وسكنت أمواج البحر وانتهى الأمل إلى ألم ممزوج مع الخوف والترقب، كأنما الساعة توقفت ولن تدور أبداً، بل كأنّ الزمن توقف ولم يعد يبصر غير الظلام في حلكة الليل البهيم.
كانت لحظة بألف عام، وكانت غصة لا يفهمها إلّا من مر بها، ولا يقدر على وصفها أبلغ الشعراء أدباً. لكنها كانت ومرت وباقية في القلب طالما ينبض بالحياة.
كانت كلماته كما لو نحتت في صخر، يُحبك كخلّ وفيّ يندر وجوده في زمن الخداع. ويعطيك حكمة في قول لا تسمعهُ في أبلغ المجالس.
علمني أنّ الصمت أبلغ من الكلام؛ فعندما يسيء أحدهم لك فأعرض عنه وكأنه غير موجود.
علمني أنّ الليل فيه جمال كالنهار وأن الصبر هو أن تحمد الله تعالى على حالك.
قالها لي مرات ومرات إنّ قصة يوسف الصديق تتكرر في أوقات وأزمان كثيرة فكن مطمئناً لأنّ الأمل يأتي مع الألم، وبعد ذلك لا يكون غير النجاح؛ فهو أجمل طعماً ومذاقاً عندما يُجبل مع الصبر الحامد على الحال.
همسها في أذني يوماً:
أي بني، إنّها دنيا فكن فيها كما يحق لك أن تكون، وتلك الآخرة فجهّز لها ما تُريده منها. ولتفهم يا بني أننا نعيش لهدف يتجلى في خدمة الناس؛ فافعل لهم ما استطعت. ولا تبادل السيئة بالسيئة مهما كانت الإساءة؛ فمن يُسيء لك اتركه وشأنه لأنه الله من كشفه لك باكراً فأحمد الله تعالى على الابتعاد عنه.
أي بني، لا تصاحب من يُجهد نفسك ويسلبك رداء العافية والتفكر فيما خلق الله لنا؛ فإنه لم يكن أسوأ ممن يلبس رداء الدين لجذب العامة له. وأيّاك أن تبيع قلمك وكلمتك لأحد مهما كان الثمن. ولتعلم أن الرزق سيأتيك أينما كنت فلا تحزن ولا تبتأس. وأغرس في أولادك حب العلم؛ فهو السلاح في زمن الجهالة. ولتكن يا بُني بشوشاً ودوداً لا تترك من يطلبك حاجةً إلا وساعدته مهما استطعت؛ فما خُلقنا لأفضل من هذا.
كانت هذه الوصايا في أوقات مختلفة تَحفر في عقلي إنساناً يُريد خيراً لمن أساء علّه يتنبّه لعلة فضيلة الصمت عندما يكون الكلام رخيصاً، وعلة فضيلة الكلام عندما تكون الفوضى نظاماً.
أي أبي الحبيب، أكتب لك على استحياء عَمَّا يدور حولنا؛ فلا أعرف ماذا أقول وعن ماذا أكتب. هل أكتب عن دمائنا التي تسيل رخيصة على أرض العرب. أم عن الناس التي تسير على أقدامها العارية، في برد لا يهتم إن كانوا يحتملونه أو لا، لتطلب نصيباً في حياة أقل بؤساً. او عن ثلّة تغافل الناس لتسلبهم حقّهم في حياة كريمة. أو عن أناس على هيئة الإنسان تبيعنا الأحلام وتقبض ثمنه من حاضر ليس لنا.
أي صديقي العزيز، أما إن ترقب حالي فأنا كما اتفقنا، أسير في طريق رسمناه سوياً، فكل يومٍ جديد أراه بدايتي الجديدة. حيث أني لم أرد على أي إساءة إلّا إعراضاً. وأما إخفاقاتي – وما أكثرها – في طيات الحياة المليئة بالحب والألم واللقاء والوداع كانت كدرجات تجعل من وصولي لأهداف متجددة أكثر سهولة وأخف حملاً على صدري.
يا أبي الحنون، إنها لحظات الحياة التي نعيشها كبرهة من الزمن العابر تمر سريعاً تأخذ في كل مرة روحاً نعيش معها وتعيش في وجداننا. يا أبي الصبور، إن ما مضى من العمر لا يعدو أكثر من لحظة، واللحظة التالية برهة للتأمل في ملكوت الله الواسع فننقل من حياة الى حياة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى