موقف عمومي

موقف عمومي
د. هاشم غرايبه

من حديث جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “خير الناس أنفعهم للناس”، في هذا القول السديد اختصار بليغ لغاية الوجود البشري .
لو أمعنت الفكر في معنى الوجود لوجدت أن الجمادات وجدت لخدمة النبات والحيوان والانسان، والنباتات لخدمة الحيوان والإنسان، والحيوانات لخدمة الإنسان، إذن فالإنسان هو المستفيد الأخير من كل شيء، فهل يعقل بعد كل هذا التكريم أن يترك الإنسان سدى، يعيش ويموت من غير مسؤولية عن فعله ؟؟ .
الناس من حيث نفعهم لأنفسهم ولغيرهم مثل المصابيح في الظلام، الغالبية من الناس مثل مصباح بقوة شمعة لا تكاد تضيء إلا لنفسها، البعض بقوة ( مائة وات ) يضيء مسافة بضعة أمتار فينفع عشرات ممن حوله، والقلة القليلة كمصباح بقوة (ألف وات) ينير لآلاف، وهكذا كلما كانت القدرة ( عزيمته وقوة إيمانه ) أعظم كان نفعه أكثر .
العلماء الدعاة والمصلحون هم من هذا النوع، هؤلاء نفعهم كثير ولذلك فأجرهم عند الله عظيم، لأنه بجهدهم يكون صلاح كثيرين، وبالتالي فلاح المجتمع.
لكن هنالك فئة حذر الله منهم، فهم يأمرون الناس بالصلاح والاستقامة، ويذكّرون الناس أن يأتوا الله بقلب سليم، لكنهم ينسون كل ذلك أمام المغريات، فيبيعون أنفسهم وعلمهم لذوي النفوذ أو المال أو ابتغاء مصلحة، بثمن بخس من لعاعة الدنيا الزائلة.
وقد سماه تعالى “ثمنا بخسا” لأن المردود الذي حصله مقابل خيانته للأمانة التي ائتمنه الله عليها، بفتح باب من أبواب علمه له، لكي يسخره أمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر، هذا الثمن مهما كان عظيما، إلا أنه بخس مقارنة بما خسره من عطاء الله الموعود.
هؤلاء لسعة علمهم هم كالكشاف الذي يسلط الضوء على بقعة بعيدة، يضيء دائرة من الضوء الجلي بعيدة عنه يستفيد منها من هو في نطاقها ، لكنه ذاته يبقى في الظلمة لم يستفد من ضوئه، هؤلاء هم الدعاة الذين قال فيهم تعالى: “أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ” [البقرة:44]، كما قرّع هؤلاء وخوّفهم من مقته.
الأخبث من بين هؤلاء كان علماء السلاطين، لأنهم الأشد نفاقا من بين أصناف المنافقين، ومنهم من يؤم الناس حافظا مجيدا لقراءة القرآن، وتجده يذرف الدموع حين يأتي ذكر الجنة والنار، فتحسبه تقيا ورعاً، لكنه إن طلبه السلطان في فتوى جائرة يجيبه، وإن استعان به ليحل له حراما أو يحرم حلالا أعانه، بذريعة ساقطة هي وجوب طاعة ولي الأمر.
هذا هو المعنى الحقيقي للإتجار بالدين.
لكن هنالك علماء ربانيون، عملوا بما علموا، وعلّموا الناس مما تعلموه، هؤلاء تعرفهم بسيماهم، والتي أهمها أنك لا تجدهم على أبواب السلاطين، بل تجد عسس الطواغيت وأدواتهم لهم بالمرصاد، يتعقبونهم ويضايقونهم ويحاصرونهم في سبل عيشهم، حتى إذا ما فشلوا في استمالتهم، وحرفهم عن استقامتهم ، لجأوا الى اعتقالهم والتنكيل بهم بالتهمة البائسة: تشجيع الإرهاب!.
في هذا الزمن الذي تمكن فيه أعداء الإسلام بالتعاون مع منافقي العرب، وبعد قرون عديدة، من كسر شوكة الدولة الإسلامية، ولخشيتهم من أن انتصارهم هذا لن يدوم طويلا، يعملون على منع عودة وحدة الأمة الإسلامية من جديد، فيهاجمون الدعاة الذين يدعون لذلك، ويخوفون الناس من أن الدولة الاسلامية لن تحترم الحريات العامة، ولأن العلماء يكشفون زيف ادعائهم ويبطلون حججهم فهم يهاجموهم.
أوكل أحفاد الأباطرة والقياصرة والأكاسرة هذ المهمة المشينة لحكام من المسلمين، وهؤلاء جندوا لها من قبل لنفسه الدور المهين في محاربة منهج الله، فناصبوا العلماء الربانيين العداء، وسكتوا عن علماء السلاطين.
المصيبة أن بعضا من هؤلاء يظن أنه بذلك يخدم الوطن ويتقدم العربان.
عداؤهم لمنهج الله ينكشف مهما ادعوا حرصهم على الإسلام، عندما تجدهم لا يهاجمون الا المخلصين من العلماء الربانيين الذين تصدوا لهؤلاء الطواغيت، فمنهم من قضى نحبه شهيدا لثباته على دينه ، ومنهم من ينتظر الشهادة في السجون والمنافي، وما بدلوا تبديلا.
يجب أن يحذر المرء من أن ينجر وراء هؤلاء، فلحوم العلماء الربانيين مسمومة، لأنهم ورثة الأنبياء والمقربون من الله.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى