الذاكرة المثقوبة

الذاكرة المثقوبة
د. هاشم غرايبه


في مثل هذا اليوم ، قبل 53 عاما، كان لأمتنا موعد مع المجد، عندما أتيح للجندي الأردني المؤمن شرف الجهاد في سبيل له، ووقف وجها لوجه أمام الجندي الصهيوني وللمرة الوحيدة في القرن العشرين، بعد أن حرم من ذلك طوال المدة التي سيطر فيها الغزاة الصهاينة على فلسطين، بداية بحماية من الإنجليز، الذين حرموا المجاهدين من اقتناء السلاح، بل جعلوا الإعدام عقوبة لمن يقتنيه من الفلسطينيين.
وبعد أن جلا الإنجليز بمحض إرادتهم، تركوا مهمة حماية الصهاينة للأنظمة العربية، والتي ظلت تدّعي أنها تعمل لتحرير فلسطين، لتنكشف الحقيقة الأليمة في مداولات مؤتمرات القمة العربية التي كانت سرية على الشعوب فقط لتبقى مخدوعة، ففي مؤتمر الرباط عام 1965 كان عملاء الموساد قد أدخلهم الملك الحسن الثاني سرا الى الطابق العلوى في الفندق الذي جرى فيه المؤتمر، ليسجلوا مداولات المؤتمر، فانكشف أنه حقيقة أنه لا توجد لدى الزعماء العرب أية نية في تحرير فلسطين، وأن كل حديث عن ذلك ما هو إلا للتخدير واتاحة الوقت ريثما يترعرع الكيان اللقيط، ويصبح قادرا على فرض نفسه كأمر واقع.
لذلك فكل ما جرى من مناوشات كانت لذر الرماد في العيون، ففي عام 48 لم تكن هنالك نية لدحر اليهود بل كانت الأوامر بالتمركز خلف الخطوط التي حددها قرار التقسيم، وتبين مذكرات “عبدالله التل” قائد الكتيبة التي تمكنت من حماية الجزء الشرقي من القدس، أن ذلك تم خارج أوامر القيادة الإنجليزية.
وفي عام 56 تم احتلال الصهاينة للأرض الواقعة من بئر السبع الى قناة السويس بالوقت الذي اقتضته سرعة الدبابات الصهيونية للوصول الى القناة، ليجيء الإنقاذ بالإنذار الأمريكي، فانصاعت تلك الدبابات وعادت القهقرى، دهش الناس لذلك، ليتبين بعد زمن أن ذلك كان لأنه في عام 1956 بدأ تحويل ولاء الأنظمة العربية من الإنجليز الى الأمريكان.
حتى جاءت حرب عام 67 التي تبين فيما بعد أنها تمثيلية لتسليم باقي فلسطين، فقد طلب القادة من جيوشهم الإنسحاب قبل أن تحتدم المعارك عن طريق الإذاعة، بذريعة عدم القدرة على توفير الغطاء الجوي، مع أنها ذريعة ساقطة، فعند دخول الألمان روسيا قاموا في اليوم الأول بتدمير كافة الطائرات السوفياتية والمطارات، وفي اليوم الثاني كافة المصانع الحربية والجسور والقطارات والمستودعات، لكن الروس ظلوا يقاتلون ولم ينسحبوا الى أن تحقق لهم النصر.
أما حرب عام 73 فقد كان الجندي المؤمن في شوق لاسترداد الكرامة التي هدرها قادته، فقاتل باستبسال وانتصر حقيقة، لكن لم يقبل هؤلاء القادة أن يحس بحلاوة النصر فيتشجع للمضي الى التحرير، فتم وأد فرحته بمؤامرتين على الجبهتين: ثغرة الدفرسوار والقنيطرة، ليتبين أن الهدف من هذه الحرب ليس تحرير الأرض، وإنما تحريك المفاوضات التي تثبت الكيان كواقع دائم.
كل ما ذكرته من أحداث أليمة جرحت كرامة الجندي العربي الذي يرنو الى الجهاد في سبيل الله، لكن قيادته المتخاذلة، تئد حلمه هذا في كل مرة.
المرة الوحيدة التي تمكن من القتال فيها وأظهار معدنه الشجاع كانت في معركة الكرامة، في 21 آذار عام 1968 .
حينما قرر الصهاينة وقد أسكرتهم انتصاراتهم السهلة، أن يهاجموا قواعد المنظمات الفلسطينية التي كانت تنطلق في عمليات ضدهم من غور الأردن.
تم آنذاك رصد التحركات العسكرية المعادية، فقام مدير الاستخبارات الأردنية الشجاع “المرحوم غازي عربيات”، بالاستطلاع بنفسه، بالتخفي بهيئة راعي أغنام، وأخذ يسوقها طوال النهار بجوار الحشود الصهيونية، وهو يستطلع ويحصي ويسجل المعلومات في ذاكرته، حتى لا يضبط معه شيء إن قبضوا عليه، واستطاع جمع معلومات هامة قدمها لقائد الجبهه “مشهور الجازي”، وكان الاستخلاص أن هنالك هجوما واسعا سيتم على ثلاثة محاور، فطلب من القيادة العليا السماح له بقصف الحشود قبل هجومها المتوقع في الصباح الباكر، لكن رد القيادة خيب آماله، لذا خوفا من أن يتكرر ما حدث عام 67 اتفق مع ضباطه على قطع خطوط الإتصال مع القيادة.
هكذا فوجئت القوات الصهيونية المتقدمة بغير ما كانت تتوقعه، فقد وجدت أمامها مقاتلين لا يهابون الموت، وكان هتافهم (الله أكبر) يعلو على اصوات الإنفجارات، لتمنى بهزيمة مريرة لا تنسى.
رحم الله شهداءنا البواسل ،الذين كانوا يطلقون نيرانهم وهم يهزجون فرحين ..فهذه فرصة نادرة لشجعان حرموا طويلا من اظهار شجاعتهم.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى