صوتي الجديد / ميس داغر

صوتي الجديد

منذ سنواتٍ قليلةٍ اشتريتُ صوتاً جديدا. لم أكن أتصوّر أنّ هذا ممكن. دلّني صديقٌ على هذا الفعل سراً بعدما شكوتُ إليه تَعَبَ صوتي القديم. ولأنه يعلم أنّ رأس مالي في صوتي، أراد مساعدتي.
صوتي القديم الرخيم ورثتهُ عن أبي، الذي ورثه عن جدي. نحن زجّالون أباً عن جد، نتوارث الصوت كما يتوراث غيرُنا المال. كان جدي زجّالُ يافا، وصار أبي زجّال المخيم، ولمّا مات حملتُ صوته. لكنّ صوتي الأصليّ هذا صار هرِمَاً ثقيلا، أتعبته الرحلةُ من الجدّ إلى الحفيد، فاضطرني إلى قبول مساعدة الصديق واستبداله بآخر جديد.
لمدة طويلة، لم يستطع أحدٌ في المخيم تمييز صوتي الجديد. واصلتُ التحدث به بما اعتدتُ التحدث فيه بصوتي القديم، واستمررتُ أنشد به نفس الزَجَل الذي أورثني إياه أبي. فيه خفة وقوة جعلتا الناس تعتقد أني قمتُ بتطبيب حنجرتي. بقيتُ مدةً أخفي قلقاً عميقاً في قلبي كلما تذكرتُ الخفّة والقوّة الجديدتين.
لم يستمر قلقي طويلا. سرعان ما انعكس إلى ثقةٍ واجهتُ بها أمي بعدما اكتشفتْ أمر صوتي. سمعتني مرّةَ أهتف في تشييع أحد الشهداء، ولمّا عدتُ إلى البيت دفعتني إلى الجدار. ثبّتتني إليه بقوةٍ غير اعتيادية، ثمّ قبضت على حنجرتي حتى كادت تخنقني، وصرختْ بفزعٍ وجبينها يندى عرقا “إنه لا يصدر من هنا”. تقصد صوتي. ثمّ أرخت قبضتها عن حنجرتي وقبضت على فكّي وهمستْ ” بل يصدر من بين أسنانك”.
ماذا يضير الصوت إن صدر من بين الأسنان؟! لم أنكر الصوت الجديد أمام أمي. دافعتُ عن نفسي وعنه ما استطعت، وحاولتُ إفهامها بأنّ الزجّال لا قيمة له بصوتٍ واهنٍ لا تلتقطه الآذان، حتى وإن صدر من عمق الحنجرة. صوتي الجديد بمقدوره آداء المهمة على أكمل وجه، ولو كان صادراً من بين الأسنان. ثمّ ماذا يهمّ المستمع إن صدر صوتي من حنجرتي أو من بين أسناني ما دام يحملُ الكلمات نفسها، واللحن الجميل إياه؟
لم تفهمني أمي. أو بالأحرى، لم تشأ أن تفهمني. أخفت سرّ صوتي عن الناس كما تخفي عارا. عيّرتني به بعد كل ليلة زجلٍ أو هتافٍ لي في مسيرة. ثمّ اختارت أن تغلق أذنيها عن سماعه إلى الأبد. مع هذا، لم يُضعف موقفها العنيد من اعتزازي المتنامي بصوتي الجديد. بل إنني أصرّ عليه الآن أكثر من أي وقتٍ مضى. فقبل أيام، وفي مسيرة الذكرى التاسعة والستين للنكبة، لم تمتلك الأصوات الأصلية، الواهنة التَعبة، قوة الامتداد مترين خارج حناجر أصحابها. وحدهُ ارتفع يشدو بالعودة إلى يافا، صوتي الذي يصدر من بين الأسنان.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى