عمان- محمد جميل خضر – لخّصت دموع الفنانة مكادي النحاس ابنة الأديب والمناضل الراحل سالم النحاس، مجمل أجواء حفل التأبين الذي أقامه له حزب الشعب الديمقراطي الأردني (حشد) مساء أول من أمس في قاعة مؤتمرات المركز الثقافي الملكي.
مكادي التي غالبت دمعاتها الحارات عدة مرات، قبل أن يغلبها النشيج وتخونها العبارة، وتسرق الحشرجة منها مواطن الحروف وبواطنها ومخارجها، آثرت في لحظة وجدانية مؤثرة أن تغادر المنصة وفي الجوف كلام، وفي البال راحل من طراز والدها: «أتذكر كيف كنتَ تستقبل الشتاء، كنت تجلس قرب النافذة متدثراً ب (الفروة) الصوف التي تفتخر بها كثيراً لأنها تقيك برد الشتاء ودسائسه اللعينة.. تراقب انهمار المطر بسعادة غامرة وأنت تردد (الله يبعث الخير)، تفتح النافذة تشم رائحة التراب وتقول: مطرٌ.. مطرٌ.. مطر، وكأنك تستحضر السياب ليشاركك الفرح الآتي من السماء.. الآن يغسل المطر قبرك، ولا تستطيع حيث أنت أن تشم رائحته المفضلة لديك.. ولن تقدر أن تقوم بجولتك المعتادة في شوارع عمان.. أستطيع الآن.. الآن فقط، أن أرى ابتسامتك الجميلة.. وأن أسمع ضحكتك التي طالما أشعرتني بالأمان.. وأجزم أنك الآن تمتطي غيمة، وتجول شوارع المدينة، وتشم رائحة المطر المكثف المعتق من ألف.. ألف عام».
وفاء مكادي وحزنها على أبيها صعّد حالة عامة تأثر بها كثير من حضور حفل تأبين النحاس، بمن فيهم مدير الحفل الزميل موسى برهومة الذي بالكاد أعاد الإمساك بإيقاعه، والإبقاء على سكينة حفل التأبين وما تميز به من هدوء وإهاب.
حفل التأبين الذي حضره رئيس مجلس الأعيان طاهر المصري، ورئيس مجلس النواب عبد الكريم الدغمي، ووزيرا الثقافة د. صلاح جرار، والمياه والبيئة موسى الجمعاني، وعدد من الأعيان والنواب والشخصيات العامة، وأهل ورفاق وأصدقاء كثر، تضمّن كلمات للحركة الوطنية الأردنية، ورابطة الكتاب الأردنيين، وفلسطين، والحركة النسائية الأردنية، والتجمع الديمقراطي داخل رابطة الكتاب، وأصدقاء الراحل، وعائلته، وكلمة لحزب الشعب الديمقراطي. وبعد أن غنى الفنان فتحي الضمور صديق الراحل ومعه عوده أغنية مارسيل خليفة «بِغيبتِك نزِل الشتي قومي طلعي ع البال/ في فوق سجادة صلا والعم بيصّلوا قلال/ صوتن متل مصر المرا وبعلبك الرّجال/ ع كتر ما طلع العشب بيناتنا بيرعى الغزال/ وَدّيت مع راعي حماه يشفلي الطقس شمال قللي السني جايي هوا بيوَقّع الخَيّال/ يا ريت ما سرجت الفرس ولا بْعَتْ ه المرسال» التي كتب كلماتها طلال حيدر، غنى في نهاية حفل التأبين ومعه الحضور جميعهم واقفين نشيد «موطني».
رئيس رابطة الكتاب الأردنيين د. موفق محادين الذي استهل كلمته التي حملت عنوان «وأنت يا سالم» في تقاطع ذكي لمّاح مع مجموعة النحاس القصصية «وأنت يا مأدبا». وفيها استرجع الراحلين الذي وصفهم ب»الأحباء.. الأحباء» الذين «قليلاً.. قليلاً، ما أقاموا». ومن بين هؤلاء الراحلين «الكبار على كثرتهم وخفقان القلب في ذكراهم، كلما تذكرتُ الصديق المبدع المشاكس، سالم النحاس، يحضر في الخاطر مع السبول وعرار وهلسا». مروّضاً لغته المثقفة الواعية، ختم محادين بالقول إن «سالم النحاس، كان مختلفاً وجاداً، وشديد الإيمان أن المأثرة الوحيدة للمثقف أن لا يخدع الناس بقانون آخر «غير قانون المقاومة» وأن لا يحولهم إلى كائنات عمياء في مختبرات بافلوف.. أجراس ترن بين الحين والآخر، ولا شيء، غير العشب، في اليوم العاشر».
ممثل الحركة الوطنية الأردنية د. منير حمارنة الأمين الأول للحزب الشيوعي الأردني أشار في كلمته لحفل التأبين، الذي وزّعت «الرأي» فيه ملحقاً خاصاً بالراحل نَشرته الجمعة الماضية، إلى رواية النحاس «أوراق عاقر» التي رأى أنها من أهم الأعمال الأدبية في فترة ما بعد هزيمة حزيران، قبل أن يختم بالقول «واليوم، ونحن نستذكر رحيل الأديب المبدع والمناضل الوطني، أبو يعرب، فإنه يجدر بنا أن نكثف كل الجهود من أجل وحدة القوى التقدمية والديمقراطية من أجل تحقيق الشعار الذي يرتفع في الشوارع العربية: الشعب يريد الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية وفي سبيل الانتصار ودحر مخططات الإمبريالية والصهيونية، واستعادة الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني والكرامة والحرية لشعوبنا العربية».
من فلسطين تداعى لحفل التأبين الكاتب هشام أبو غوش عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، وألقى فيه كلمة عدّد فيها مآثر النحاس، واستذكر مواقفه. وركز على طاقة النحاس الهائلة، وما حققه من مواءمة خلاقة بين أدبه وكتاباته الروائية والقصصية والمسرحية، وبين نضاله ونشاطه السياسي الفذ.
العين آمنة الزعبي، ومتحدثة باسم الحركة النسائية الأردنية قالت «سالم النحاس من القلائل الذي توأم حياته الخاصة والنقابية والسياسية، فهو في بيته كما هو في مقر حزبه، أو مقر رابطة الكتاب، مشغول بأمر مهم دوماً، وكان من الصعب أن يُعثر على الحد الفاصل بين ما يخصه، وبين ما ينخرط فيه من عمل عام».
رئيس التجمع الديمقراطي الكاتب د. أحمد ماضي طالب بكلمته لحفل التأبين رابطة الكتاب الأردنيين أن تولي الراحل مزيداً من الاهتمام، وأن تقيم من أجله، «على أضعف الإيمان»، ندوة. وأن تبادر بالتنسيق مع وزارة الثقافة وأمانة عمان لتسمية شارع من شوارع عمان، أو ربما مادبا، باسم سالم النحاس «شارع يليق بمكانته الأدبية ومنزلته السياسية».
الروائي جمال ناجي، ومتمسكاً بالجو الوجداني لحفل التأبين، ألقى كلمة قال فيها «أعرف بأنك تسمعُنا وتنظر إلى أوراقنا بعينين يقظتين، فتلك كانت عادتك في حياتك الشقية، وأعلم بأنك تحن إلى عالم الأحياء الذي فارقته على الرغم من أنه قسا عليك ولم ينصفك، وأعلم ثالثاً، أن روحك تطوف الآن في أرجاء هذا المكان الذي اجتمع فيه أصدقاؤك ومحبوك ممن عرفت في حياتك وممن لم تعرف». إلى أن قال بلغة بليغة «أتحدث باسم أصدقائك الذين وحدهم موتُك في هذا اليوم، على رغم خلافاتهم الكبيرة معك ومع بعضهم، وأفهم بالطبع، بأن مخاصمتهم لك في حياتك كانت أمرا منطقياً ومدعاة اعتداد، لأن الإنسان الحي فقط هو الذي يحظى بالخصوم، وقد كنت حيّاً في حياتك، إلى درجة تذكرنا باعتراف بابلو نيرودا حين قال: أشهد أنني قد عشت. ونحن نشهد أنك قد عشت في حياتك، وأنك كنت حيّاً في مرضك، ولا زلت حيّاً بعد موتك».
الأمينة العامة لحزب الشعب الديمقراطي النائب عبلة أبو علبة ختمت كلمات التأبين بكلمة راوحت فيها بين الحديث عن الراحل، وبين الحديث عن الأحوال المحلية والعربية هذه الأيام. كما ركّزت في كلمتها على التاريخ الوحدوي المشترك نضالياً واجتماعياً وقومياً وسياسياً بين الشعبين الأردني والفلسطيني. ومما جاء في كلمة أبو علبة: «عام مضى على رحيل الرفيق المناضل سالم النحاس وهو العام العربي نفسه الذي هلّ علينا بهوية إنسانية وسياسية جديدة، فكان شاهداً على انبثاق ثورة لم تعرف شعوبنا العربية في العصر الحديث مثل طبيعتها وعناوينها المزدحمة بالحريات والعدالة الاجتماعية والمساواة، في مواجهة القهر والظلم والاستبداد. إذن فهو العام الذي قدّم هديته المؤجلة منذ حوالي نصف قرن لأرواح المناضلين والشهداء والمعذبين في وطننا العربي من أقصاه إلى أقصاه، ففتح الباب المغلق على مصراعيه لإعادة الاعتبار لإنسانية وحقوق ودور الشعوب العربية في صنع مستقبلها واستعادة كرامتها المهدورة».
أ.ر