سواليف
يشكّل كتاب “ليس مجرد سرد؛ أصل الحكاية في التراث العربي” الصادر مؤخراً عن “الآن ناشرون وموزعون” للكاتب “محمد محمود البشتاوي” محاولة لإعادة التشبّث بتراثنا، فكلما كان الأدب قادراً على تصوير بيئته المحلية تصويراً عميقاً استطاع أن ينطلق إلى العالمية.
يتجه بعض المثقفين الأمميين إلى الحضارات الأخرى لإغناء رصيدهم الثقافي، وإضافة ما هو جديد ومختلف عمّا خُلِّد في تاريخهم الأدبي. وخلافاً لذلك أصيبت الحالة العربية بإنكارٍ للذات وتنكُّرٍ لها، إذ إن «التراث» في نظر شريحة كبيرة من مثقفينا، ليس إلا حجرَ الزاوية لمقام الشعر الذي عُنونَ نقديّاً بوصفه «ديوان العرب».
لقد رُويَ التراث في جلِّ مصنفاتهِ بوصفه جزءاً من تاريخٍ، لا أدباً، ولا سرداً، وتقزّمَ أمام حالة «الشعرنة» العربية، فتداخلَ بذلك التاريخ والسرد الحكائي العربي، وباتَ من المهمِّ تناولُهُ كما نشأَ في أصلهِ، لا كما جاءت بهِ النظريات القديمة، إلا ما وردَ فيها وكان أداةٍ يمكن توظيفها لصالحِ الفهم والقراءة.
لم يكن القصور في تناول التراث السردي العربي بسبب قلة ما توفر من نصوص، أو بسبب ضعف المحتوى، بل على العكس من ذلك، كان السرد حاضراً وبأشكال وأنماط متنوعة، بيدَ أن الشعر مُيِّزَ؛ فهو «لسان العرب»، فاجتذبَ الأضواء إليه، وانجذب الدارسون له، ما أدى إلى إقصاء ما سواهُ من فنون وآداب.
إن مكمن الخلل تجسد في غياب النقد للتراث الحكائي، مذ كان الانشغال يقتصر على «بحور الشعر» و«طبقات الشعراء» و«المنحول» و«السرقات» والمفاضلة بين فرسان الشعر العربي..، علاوةً على الاهتمام البالغ الذي حظي به الشعر من قبل السلطات المتعاقبة التي أغدقت العطايا على الشعراء، الأمر الذي «شَعرَنَ» آداب العرب، فلا عجب إن صُهرت بعض القصص لتُروى شِعراً، أو دخل الشعر في كلِّ كبيرةٍ وصغيرةٍ من كلامِ العرب.
يقول البشتاوي في مقدمة كتابه :
“إن مكمن الخلل تجسد في غياب النقد للتراث الحكائي، مذ كان الانشغال يقتصر على «بحور الشعر» و«طبقات الشعراء» و«المنحول» و«السرقات» والمفاضلة بين فرسان الشعر العربي..، علاوةً على الاهتمام البالغ الذي حظي به الشعر من قبل السلطات المتعاقبة التي أغدقت العطايا على الشعراء، الأمر الذي «شَعرَنَ» آداب العرب، فلا عجب إن صُهرت بعض القصص لتُروى شِعراً، أو دخل الشعر في كلِّ كبيرةٍ وصغيرةٍ من كلامِ العرب.
نُظِرَ قديماً إلى بعض السرد من زاوية أن ما يأتي بهِ ليس إلا خرافات وحكايات غير مألوفة في بيئةٍ تقومُ على الجدية والفروسية، والتسليم بأن قرض الشعر سمةٌ يتحلى بها العربي في قبيلته، وأمام القبائل الأخرى، فالشاعرُ لسان قبيلته في وقتِ الحربِ والسِّلمِ، وتداوُلُ الشعر شفهيا أيسرُ من النثر، وأكثر بلاغةً، وحماسةً، وتأثيراً في النفس.
ومقابل ذلك أُهمِلَ السرد؛ فهو نثر أدنى مرتبة من الشعر، وكثيراً ما خالطَ «السرد» التاريخ والتوجهات الفكرية، وإن أردنا فرز القائمين على السرد في التاريخ العربي نجد أنهم إخباريون، وحاملو فكر، ومدونون لتاريخ الحقباتِ السابقة، فانطبع في الأذهان أن السردَ وعظيٌّ (كرسائل ابن حَيَّان وبعض المقامات)، أو فلسفيٌّ (كقصة حَي بن يقظان بنسخ مؤلفيها الأربعة)، أو فكاهيٌّ (كقصص بخلاء الجاحظ ونوادر جحا)، أو خارجٌ عن المألوف (كحكايا السعالي والجن وغرائب الصعاليك كتأبّطَ شرّاً)”.
قسّم المؤلف كتابه الواقع في (128صفحة) من القطع المتوسط، إلى ثمانية أبواب تحدث في الأول منها عن “الحكاية العربية القديمة.. عناصر الائتلاف والاختلاف”، وفي الثاني عن ” حرب البسوس”، في الثالث عن “زنوبيا (الزباء)”، وفي الرابع عن ” الضيزن ملك الحضر” ، وفي الخامس عن ” البحث عن سنمار “، وفي السادس عن ” حديث خرافة عند العرب”، وفي السابع عن ” ظاهر العمر.. بين المشارط وقوالب التاريخ”، وأورد المؤلف في الباب الثامن والأخير مختارات من السرد العربي القديم منها ” أخبار الملك النعمان بن المنذر التنوخي” و” من حكايات أبو علقمة النميري” و”حروب الفئران”..
«ليسَ مجرّدَ سرد» إطلالةٌ على التراث العربيّ الحكائيّ، وما اشتملَ عليه من سُرود، ومحاولة تفحُّصِها ضمن أكثر من سياق؛ قراءة تفاعليّة مع النصّ تسعى لاستنطاق الكامن فيه، ومعالجته في مقارنة تاريخيّة وثقافيّة بين العرب والأمم الأخرى، وتوضيح العلاقة بين التاريخ والحكاية، والتّأكيد أنّ الموروث العربي لا يقتصر على الشعر!
يذكر أن الكتاب سيكون من ضمن إصدارات “الآن ناشرون وموزعون” المشاركة في معرض جدة الدولي للكتاب في الفترة “12/12-22/12”.