سواليف
كلما طال أمد الأزمة السياسية في العراق، تكشف الأحداث تغلغل الدور الإيراني في الشأن الداخلي لبغداد، لدرجة أن طهران باتت الطرف الأهم في معادلة تحديد من يجلس على مقعد رئاسة الحكومة.
وفي خلال أسابيع قليلة، برز اسم القيادي المهم في قوات الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني أكثر من مرة، لتقديم المشورة لبغداد في كيفية قمع الاحتجاجات التي تطالب باستقالة رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، ولا ترضيها مسكنات الحكومة على هيئة إصلاحات أو تحقيقات فساد.
ويعتبر سليماني أبرز القادة العسكريين الإيرانيين، والأكثر تفضيلا للمرشد علي خامنئي، كما أنه قائد فيلق القدس الذي لا يتلقى أوامره إلا من المرشد شخصيا.
إلا أن ظهور اسم سليماني على الساحة العراقية مؤخرا، كان بسبب دوره في تحديد اسم من يتبوأ منصب رئيس الوزراء، بما يعكس تدخلا “على أعلى المستويات” في الشأن الداخلي.
فقد كشفت وكالة “فرانس برس”، السبت، عن اتفاق بين القوى السياسية الرئيسية في العراق على إبقاء السلطة الحالية، حتى لو اضطر الأمر إلى استخدام القوة للقضاء على المظاهرات المطالبة بإسقاط النظام.
أما عراب الاتفاق فلم يكن سوى سليماني، الذي التقى مقتدى الصدر ومحمد رضا السيستاني (نجل المرجع الشيعي علي السيستاني)، في اجتماع تمخض عنه التوافق على أن يبقى عبد المهدي في منصبه.
وحسب “فرانس برس”، فقد واصلت غالبية القوى السياسية اجتماعاتها خلال الأيام الأخيرة، واتفقت على بقاء رئيس الحكومة، مع إجراء “حزمة إصلاحات في ملفات مكافحة الفساد”، فضلا عن اعتماد تعديلات دستورية، وهو ما ظهر بالفعل في بيان عبد المهدي الذي فشل في احتواء غضب الشارع.
لكن مصادر الوكالة تشير إلى أن اجتماعات القوى السياسية جاء بعد اتفاق سليماني مع الصدر والسيستاني على بقاء عبد المهدي، مما يعني ضمنيا أن الاجتماعات اللاحقة كانت مجرد تحصيل حاصل.
والاجتماع ليس المؤشر الأول على دور إيران ممثلة في سليماني داخل العراق، فقد حضر العسكري ذاته اجتماعا أمنيا كبيرا بعد أول أيام الاحتجاجات، نيابة عن عبد المهدي شخصيا، عندما توجه إلى بغداد في وقت متأخر من الليل، واستقل طائرة هليكوبتر إلى المنطقة الخضراء شديدة التحصين، حيث عقدت الجلسة الأمنية.
وفي هذا الاجتماع، تحدث سليماني عن تاريخ إيران في قمع الاحتجاجات، ودعا إلى استخدام الوسائل ذاتها فيما يشهده العراق مؤخرا.
وبالفعل، ترجمت بغداد ما قاله سليماني على الأرض، وبالاستعانة بقنابل الغاز الإيرانية والمسلحين المدعومين من طهران، خلال أكثر الاحتجاجات المناهضة للحكومة العراقية دموية منذ سنوات.
أما وسيلة المقاومة الوحيدة للهيمنة الإيرانية على القرار العراقي لم يكن صوتا داخل الحكومة، بل خرجت من قلب الاحتجاجات التي عمرت شعاراتها وصورها بضرورة رفع طهران يدها عن بغداد.
لا مؤشرات
الاحتجاجات الأخيرة بعد 25 أكتوبر/تشرين الأول في بغداد ومحافظات وسط وجنوب العراق كما يبدو هي التحدي الأخطر الذي يواجه حكومة عادل عبد المهدي منذ تسلمه رئاسة الوزراء قبل أكثر من عام.
واذا كان عنوان الاحتجاجات الأبرز مكافحة الفساد والحد من البطالة وتردي الخدمات الأساسية وسوء الأداء الحكومي، وهي مطالب حاول عادل عبد المهدي اتخاذ بعض القرارات بصددها يمكن ان تقود إلى تهدئة الشارع، لكن المطالب السياسية المتمثلة في اسقاط الحكومة ورئاسة الجمهورية وحل مجلس النواب هي الأكثر تعقيدا مع استمرار تمسك المحتجين بها.
وتعاني مؤسسات الدولة العراقية من سيطرة الأحزاب السياسية والفصائل المسلحة على الأموال والمصارف والسلطة التنفيذية التي يشكل الفساد المتجذر فيها ابرز سماتها المعروفة والتي لا يمكن للعراق أن يخرج بنفسه من دائرة الفساد الذي ينخر مؤسساته في ظل استمرار هذه الأحزاب في قيادة البلد، وهو ما أدركته الحركة الاحتجاجية التي طالبت في بعض شعاراتها باسقاط الحكومة واجراء إصلاحات سياسية جذرية في بنية العملية السياسية القائمة منذ ستة عشر عاما.
إن أي تغيير في الحكومة أو في العملية السياسية محكوم بشكل ما بإرادة الكتل السياسية الرئيسية ورغبتها في التغيير، بالإضافة إلى دور العامل الخارجي، خاصة الولايات المتحدة وإيران وضرورة اتفاقهما “الضمني”.
وعبر عن ذلك الرئيس العراقي برهم صالح، الخميس، حين قال إن تشكيل حكومة جديدة مرهون بتوافق كتلتي “الحشد الشعبي” و”سائرون” على ذلك.
في الموجة الأولى من الاحتجاجات التي انطلقت أوائل أكتوبر/تشرين الأول، اعترف عبد المهدي بأن حكومته لا تملك “حلولا سحرية” لاعادة البنية التحتية والحد من البطالة ومكافحة الفساد ومشاكل أخرى ورثها من الحكومات المتعاقبة بعد عام 2003.
لكن عبد المهدي أعلن عن حزمة من الوعود بـ “الإصلاحات” بهدف تهدئة الشارع وإنهاء الاحتجاجات، إلا أن تلك الوعود لم تصل إلى غاياتها إذ عاد المحتجون إلى الساحات العامة في بغداد ومحافظات وسط وجنوب العراق في 25 أكتوبر/تشرين الأول بزخم مشاركة شعبية أوسع مع حملات “قمع” تبدو أقل من الحملات التي جوبه بها المحتجون في بداية أكتوبر/تشرين الأول.
ومع تزايد حالات “القمع” ضد المحتجين وسقوط مئات القتلى والآف الجرحى منذ بداية أكتوبر/تشرين الأول، وفور عودته من طهران، دعى رئيس تحالف “سائرون” مقتدى الصدر إلى استقالة عادل عبد المهدي والدعوة لاجراء انتخابات مبكرة تحت اشراف الأمم المتحدة.
وتفتقد وعود الإصلاح إلى قدرتها على اقناع المحتجين وتهدئة حالة السخط على الحكومة ورئيسها عادل عبد المهدي لاعتقادهم أن الحل الوحيد لازمات البلاد تتمثل في الإصلاح الشامل، الاقتصادي والسياسي.