حين يُحاكم الشعراء برودسكي نموذجا

حين يُحاكم الشعراء برودسكي نموذجا
خيري منصور

قد تكون محاكمة الشاعر الروسي برودسكي في ستينيات القرن الماضي هي الأولى من نوعها، تبعا لتعريف المحاكمات في عصرنا، لكن الشعراء منذ بداية التاريخ تعرضوا للإقصاء والنفي، فقد اقصاهم أفلاطون من جمهوريته الفاضلة، ونفى الإمبراطور الروماني الشاعر أوفيد صاحب مسخ الكائنات وفن الهوى، وقطع رأس الشاعر الإنكليزي وولتر رالي في القرن السابع عشر، لأنه تمرد على الملك جيمس الأول ثم أعيد اليه الاعتبار قبل خمسة عشر عاما، حين صُنّف بأنه واحد من أعظم مئة شخصية إنكليزية في التاريخ. وفي روسيا هناك شعراء حاكموا انفسهم على طريقتهم بالانتحار، مثل ماياكوفسكي وسيرجي يسنين، لكن «محاكمة برودسكي» وهو عنوان الكتاب الصادر حديثا، الذي ترجمه شاكر نوري، تفتح لنا آفاقا على هذه الدراما التي تختلط أحيانا فيها التراجيديا بالكوميديا.
ولا يمكن عزل ما جرى لبرودسكي، سواء في محاكمته أو في منحه جائزة نوبل عن السياق التاريخي للحرب الباردة وصراعاتها التي تجلت ثقافيا، فلم يكن برودسكي الوحيد الذي عاش ومات في المنفى، وهناك علماء من طراز زخاروف، وروائيون من طراز سولجنستين تعرضوا لمصائر تراجيدية، وإن كان سولجنستين صاحب رواية «جناح السرطان» الشهيرة قد ظفر بالعودة إلى روسيا ولقي استقبالا يندر أن يلاقيه مثقف أو كاتب.
شارك في تأليف كتاب «محاكمة برودسكي» عدد من الكتاب منهم، هيلين دانكوس التي كتبت مقدمة الكتاب، وجانين ليفي وديفيد ايتكند، وفريدا فيغروفا، وإضافة إلى وقائع المحاكمة التي وصفها شاكر نوري بالسريالية، لأنها تذكرنا بكوابيس كافكا، فإن ما يرد في الكتاب من مقتطفات شعرية أو نثرية لبرودسكي يجزم بأن هذا الشاعر استحق التكريم الذي حصل عليه في حياته، وإنه ليس مجرد استثمار مارسته الدوائر الرأسمالية لشاعر عانى من الاستبداد في الاتحاد السوفييتي، ومن المعروف أن الحقبة الستالينية بالتحديد، التي اقترن بها اسم الرقيب جدانوف كانت مأساوية قدر تعلقها بالثقافة وحرية التعبير، وعلى سبيل المثال اقترح جدانوف على شاعر روسي أصدر ديوانا لم يكن مكرسا للكلوخوز والبروليتاريا أن يكتفي بنشر نسختين فقط من الديوان، واحدة له والأخرى للمرأة التي يحبها! ولم تكن محاكمات المبدعين عموما وليس الشعراء فقط خارج المدار السلطوي للتاريخ الغاشم، ولدينا في تاريخنا العربي نماذج تم التنكيل بها صلبا وحرقا وذبحا ونفيا، وفي عصرنا الحديث سجن شعراء ومنع آخرون من السفر وفرضت الإقامة الجبرية عليهم، كما حدث في فلسطين المحتلة، وقد تكون قصيدة محمود درويش عن الزنزانة نموذجا يجسد جدلية الجلاد والضحية والسجان والسجين التي يقول فيها:
لا غرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل
نيرون مات ولم تمت روما بعينيها تقاتل
وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل
وقد يكون ما عاناه شعراء آخرون من مختلف القارات في عصرنا، كبابلو نيرودا ولوركا وناظم حكمت وغيرهم، وثائق وجدانية تدين الاستبداد الذي لا جنسية له، كما أن الإبداع الحقيقي لا جنسية له لأنه عابر للأزمنة والثقافات واللغات.
يقول برودسكي إنه يفضل أن يكون مواطنا عاديا في بلاد حرة، على أن يكون بطلا في وطن يعاني من الاستبداد والاستعباد، وهو كما تشي قصائده وحواراته، وحتى محاكمته منسجم مع ذاته ومُتناغم مع قناعاته، يقول مثلا: إن من يركض وراء نشر كتبه لا يمكن له أن يكتب وينتج، وكأنه يشير إلى بعض الكُتّاب الذين ينفقون طاقاتهم ووقتهم خارج نطاق الإبداع، فهم ضليعون في فقه آخر هو فقه العلاقات العامة وتسويق الذات! إن محاكمة برودسكي تصلح سيناريو محكم السياق لفيلم سينمائي، لكنه أقرب إلى التسجيل والتوثيق، والقاضي فيه يلعب دور البطولة لصالح الأيديولوجيا، فهذا فصل مأساوي في التاريخ قابل للتكرار، ما دامت هناك سلطة تسعى إلى تدجين المثقف، وبالمقابل هناك مثقف يصدق عليه المثل العربي القائل تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها.
وهذه الجدلية الخالدة لا يتبدل فيها بمرور الزمن غير الإيقاع والاسماء والعقاب على جريمة تسمى في معجم الاستبداد الحرية لا نهاية لها، بدءا من عالم الميثولوجيا الأغريقية حيث عوقب بروميثيوس سارق النار، وكذلك سيزيف الذي يتأبط الصخرة صاعدا وهابطا إلى ما لا نهاية وبلا أي هدف، والصخرة قد تكون الحرية ذاتها كما تصورها سارتر في إحدى مسرحياته.
إن الالتباس الوحيد الذي يمكن لمحاكمة برودسكي إثارته في ذاكرتنا هو ما قاله سوندرز في كتابه «من الذي يدفع للزمار» المكرس لثقافة الحرب الباردة، وما كان يجري وراء كواليسها، وثمة من سيربطون حتما بين محاكمة برودسكي وقضية باسترناك الشهيرة التي تحولت إلى فيلم سينمائي، أو ما تعرض له زاخاروف عالم الفيزياء والروائي سولجنستين، لكن قراءة أشعار برودسكي تبدد كثيرا من الالتباس، فهو ليس مدينا للحرب الباردة ومماحكاتها ودسائسها في أهميته وما نال من تكريم وشهرة.
أما ميتافيزيقية برودسكي فهي ليست محصورة في نطاق التعريف الأكاديمي للميتافيزيقا، فهو ليس من طراز الشاعر جون دن، أو رينر ريلكة، لأن هاجسه الشعري كما يرشح من بعض نماذجه يزاوج بين الحياة والموت، والقبر الذي يتحدث عنه بتكرار مثير موعود بأكثر من قيامة.
ولهذا الكتاب أهمية تتجاوز الوثائقية والتسجيل إلى إمكانية التأويل، فالشعراء ككل المبدعين مطلوبون أحياء فقط للطغاة، ومطلوبون موتى لذويهم الذين صمتوا حين كان الكلام امتيازا آدميا وأخلاقيا.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى