خطاب التسامح والتسامي / د.رياض ياسين

خطاب التسامح والتسامي
بات الوصول الى الهوية الجامعة لمجتمعاتنا أمرا غاية في الصعوبة، ومن هنا يفترض ان يتم تعزيز الجهود واعادة تعريف المكونات الثقافية والخطاب الوطني انسجاما مع الإرث الثقافي العربي الإسلامي المؤسس من غنى حضاري وثقافي عميق استلهمناه من الحضارة الإسلامية وميراث الحضارات العالمية على مدى قرون امتد على مساحة قارات العالم القديم من غرب آسيا الى غرب أوربا،وحديثا تعزز هذا النهج بالعديد من الإعلانات العالمية حول التسامح والمثاقفة التي طالبت وتطالب بها الهيئات الدولية والمنظمات المعنية بالحوار في كل العالم وبالاخص تلك المنظمات التي لها تأثير في صياغة الوعي العالمي وتوجيه الرأي العام في العالم،لذلك لامانع من حيث المبدأ من إعادة تشخيص الحالة الحضارية لجهة التعاطي مع الآخر وفتح قنوات جديدة لفهمه.
يمثل التنوع الثقافي كما جاء في المادة الاولى من إعلان اليونسكو العالمي تراثا مشتركا للإنسانية، فالثقافة تتخذ أشكالا متنوعة عبر المكان والزمان. ويتجلى هذا التنوع في أصالة وتعدد الهويات المميزة للمجموعات والمجتمعات التي تتألف منها الإنسانية. والتنوع الثقافي، بوصفه مصدرا للتبادل والتجديد والإبداع، هو ضروري للجنس البشري ضرورة التنوع البيولوجي بالنسبة للكائنات الحية. كذلك جاء في “الاعلان الاسلامي العالمي للتنوع الثقافي ” الذي أعدته الإيسيسكو سنة 2004 ما يفيد بأن لكل ثقافة قيمتها ومكانتها وإسهامها في اغناء التراث الثقافي الانساني وانها معنية بالعمل على تجسير هوة عدم الفهم بين الحضارات وعدم إخلاء الساحة للتوجهات المعادية وللهجمات المغرضة لتستمر في تشويه صورة الإسلام والمسلمين والتجني على العقيدة السمحة.
وبناء على ذلك نشير انه في الأردن هناك نهج يقود الانفتاح بغية الإصلاح ورغبة في تصحيح الفهم وقراءة الرسالة التي تؤسس لمرحلة جديدة من خطابنا العربي الإسلامي بعد أن ضاعت بوصلة وحدة الخطاب العقلاني لصالح خطاب جديد لايمت للاسلام بصلة الا من جهة تكييفه لمصالح ضيقة،وما يفرزه ذلك من سلوكات تلصق بنا وثقافتنا التي تستعصي في حقيقتها على المضي قدما في تحويل الثقافة الإسلامية الى ثقافة منغلقة بعيدة عن العصرنة ومجافية لركب الحداثة،صحيح أن هناك مؤسسات ذات طابع ديني تقدم خطابا مستنيرا بشكل نسبي،غير ان هذا الخطاب يبقى قاصرا باعتبار انه لايلامس تماما جوهر ما آلت اليه الأمور من ناحية،ومن ناحية ثانية لا يدخل في صميم التحديات العالمية الراهنة لأنه ينصرف فقط الى التعاطي مع مسائل لا تكون ذات أولوية في للمجتمعات والإنسانية.وفي هذا السياق من يطلع على بعض المؤسسات الرائدة في الأردن يستبين دورا مفرحا مستندا إلى منهجية مؤسسة على قاعدة من اعتدال النهج والوسطية في الطرح والبعد عن المغالاة والتطرف التي أغرقت ثقافتنا بمزيد من المشاكل وورثتها التشويه الذي يستغله المتربصون.ومن المؤسسات التي ترعاها مباشرة القيادة الأردنية بدور على الصعيد الخارجي بما يخدم صورة الإسلام ويقوض التشويه الذي يجابه المسلمين وصورتهم في أرجاء العالم ،مثل المعهـد الملكـي للدراسـات الدينيـة الذي يوفر في العالم العربي مركزاً رائداً للدراسة والبحث في جميع المواضيع المتعلقة بالتفاعل بين الأديان والحضارات والثقافات إقليمياً وعالمياً ،ويشمل عمل المعهد الملكي جميع المواضيع المتعلّقة بالتنوع والتعدديّة الدينيّة والثقافية والحضارية، أو التي تؤثر فيها وتتأثر بها في العالم، وبخاصة التعددية الثقافية والتفاعل بين الثقافات والأنماط الحضارية في عالمنا المعاصر، إضافة إلى اهتمام خاص بالتنوع الثقافي في العالم العربي والإسلامي وضرورة المحافظة عليه ورعايته وتطويره، ودراسة جميع المتغيرات والمؤثرات الحديثة والمتسارعة في الظاهرة الاجتماعية الإنسانية في عالم اليوم.كذلك يسجل لمؤسسة آل البيت الملكية للفكر الإسلامي الريادة في التعريف بالديــن والفكر والثقافة الإسلامية وتجلية جوانبها المضيئة، والمساهمة في تصحيح المفاهيم والأفكار غير السليمة عن الإسلام والانفتاح على الثقافات الأخرى وإبراز المساهمة المستنيرة للحضارة الإسلامية في الحضارات العالمية.
والدولة الاردنية مطالبة بصورة جدية بالاستمرار بتعزيز ثقافة التسامح على الصعيد المجتمعي المحلي، من منطلق أن التسامح يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا. ويتعزز هذا التسامح بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد. وأنه الوئام في سياق الاختلاف
وهو ليس تراجعا أو تخاذلا بل أسلوب في محاربة الشر ، و الحقد ، باعتباره قيمة أخلاقية تسمو عن التقديرات الذاتية ، و المصالح الضيقة ، و الأنانية المفرطة. والتسامح ينمي روح الأخوة و يعزز الثقة و الحوار المتبادل و القبول الآخر و الاعتراف بحقوقه. وهو ليس واجبا أخلاقيا فحسب، وإنما هو واجب سياسي وقانوني أيضا، والتسامح يسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب، فقد اعترف جون جاك روسو J.J.Rousseau بأن طبيعة الانسان خيّرة ، و أن الحياة الطبيعية تميزت بالتعايش و التعاون و الحرية بين الجميع و هذا ما ينبغي أن تكون عليه العلاقات بين الناس بمعنى أن الميثاق الاجتماعي لا يمكن أن يقوم على العنف و يكسب بذلك شرعية إذ لا وجود لحق الأقوى،و نفس المبدأ يدافع عنه كانطKant حيث يجب أن يحاط كل انسان بالاحترام بوصفه غاية في ذاته و ليس مجرد وسيلة ،فالتطور الصحيح للتاريخ يستدعي تضييق دائرة العنف و توسيع دائرة السلام بدعوة الكل الى التعاون و التآخي و نبذ كل أشكال الحقد و الكراهية و التمييز العنصري و الاستغلال .

والإسلام دين التسامح ينبذ العنف والكراهية، ويدعو إلى التعاون والسلام والتعامل بالبر مع المخالفين في الدين، لقد ضرب الرسول(ص)، أروع الأمثلة في التسامح حتى مع أشد أعدائه حتى إذا نصره الله بفتح مكة، يأتيه الملأ من قريش مستسلماً فيقول لهم باسماً: “اذهبوا فأنتم الطلقاء، لا تثريب عليكم ويغفر الله لكم”. و من آثار التسامح الديني مجادلة المختلفين في العقيدة بالتي هي أحسن لقوله تعالى:(ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ )،وقال ايضا:(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حمِيم) .
العنف مرفوض بكل أشكاله ولكل حقه في التعبير عن الرأي والمعتقد بما يحفظ احترام الغير ويترك مسافات امان كافية،الدستور الاردني كفل حرية الراي والتعبير والمعتقد بصورة واضحة جلية،والإعلان العالمي لحقوق الإنسان يؤكد أن “لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين” (المادة 18) و “حرية الرأي والتعبير” (المادة 19) و “أن التربية يجب أن تهدف إلى تنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب
إن الحرية مطلب أساسي في حياة المجتمعات،والحرية كفالتها القوانين والدساتير والعقود الاجتماعية المبنية على منظومات اخلاقية وتشريعات دينية ودنيوية لطالما بنيت على فلسفة لتنمية المجتمعات وتطويرها وتحريرها من كافة اشكال الجهل والعتف والتخلف،ومن هنا تصبح مبادئ التسامح والمصالحة و التعايش السلمي قوى سياسية عالمية تساهم في ازدهار الأمم الحالية و رقيها و إعلاء المعاني الإنسانية و إقرار الحق و دفع الأذى بعيدا عن النزاعات و الصراعات.
إن حركة التنافر و التجاذب التي تحكم حياة الناس، قد تطغى عليها مظاهر العنف و اللاتسامح، لكن حكمة الإنسان تقتضي منه مقابلة العنف بالتسامح في إطار الحفاظ على القيم الإنسانية و المبادئ الأخلاقية الساميـــة وميراث التعايش الذي عرفته أمتنا العربية على مدى قرون،كنا ومازلنا في الاردن نمثل النموذج في التسامح والتعايش وقبول بعضنا مع اختلافنا،فنحن مع الاختلاف وضد الخلاف على اساس الاختلاف بكل المعاني.
Rhyasen@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى