رسالة إلى ابن الستين / ماجد دودين

يا من بلغت الستين من عمرك

رسالة إلى ابن الستين

تذكّر يا صديقي العزيز على قلبي وقد دلفت ودخلت ووصلت إلى عالم الستين من عمرك حيث تضعف القوى وتقل العزيمة… تذكّر أوّل ما تتذكر حديث إمام الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه: ((أعمار أمّتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلّهم من يجوز ذلك)) … وبادر دون إبطاء أو تسويف إلى التوبة وتصحيح النيّة وتمام الاستسلام لمولاك سبحانه، واستعتب بين يدي خالقك فهو الغفور الودود … ذو العرش المجيد…

تذكّر حكمة الحكماء وقول البلغاء: الأسنان أربعة … أيْ مراحل العمر أربعة وهي:

مقالات ذات صلة

• سن الطفولة

• ثم سن الشباب

• ثم سن الكهولة

• ثم سنّ الشيخوخة

والشيخوخة آخر مرحلة وآخر سن وغالباً ما تكون المرحلة الأخيرة ما بين الستين والسبعين حيث يظهر ضعف القوة بدخول حالة النقص والهبوط…لذا عليك الإقبال على الآخرة بالكليّة لاستحالة العودة إلى سنّ الطفولة أو سن الشباب أو سن الكهولة وهي مراحل النشاط والقوة المتصاعدة …فعجلة الزمن لا ترجع ولا تعود إلى الوراء…

يا صديقي الحبيب … يا من بلغت الستين… أنصحك نصيحة من القلب خالصة … اعزم على التوبة والإنابة عزما جازما صادقا مخلصا لتنال حب الله سبحانه الذي يحب التوابين ويحب المتطهرين … ولتكن على حال تنال فيها رضا الله أرحم الراحمين …فإذا لم تتب وقد دخلت عالم الستين فمتى ستتوب؟ وإذا لم تأت الإنابة وقد دنا الأجل ولم يبق إلا القليل فبالله عليك – يا ماجد- متى ستكون هذه التوبة وتلك الإنابة؟!

يا حبيبي يا ابن الستين أذكرك بقول إمام الأنبياء والمرسلين صلى الله عليه وسلم -: ((من عمّره الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر)) … أي لم يترك له عذراً إذ أمهله هذه المدة، فبأي عذر تعتذر وقد أكرمك الله وأمهلك ببلوغك الستين

قال القرطبي: جُعل الستين غاية الإعذار… لأن الستين قريبٌ من معترك العباد، وهو سن الإنابة والخشوع والاستسلام لله، وترقب المنية ولقاء الله، ففيه إعذار بعد إعذار… وقد بلغت الستين وهذا السن هو سنّ التذكر وعمر التوفيق الذي قال الله تعالى فيه: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} فأقبل على أكرم الأكرمين بالإنابة وبالرجوع إليه فالستين مظنّة انتهاء العمر غالباً.

يا صديقي كان في بلوغك من العمر أربعين سنة استكمال الشباب واستجماع القوة وهو عمر تام ولا تزال بعده في نقصان وإدبار تدريجي.. أما وقد بلغت ستين سنة، فهذا عمر التذكر والتدبّر والتوقف والاعتبار، قال – صلى الله عليه وسلم -: «إذا كان يوم القيامة نودي أبناءُ الستين: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}» فمن عُمّرَ ستين سنة فقد جاءه أوان التذكر، لأن الأربعين منتهى استتمام القوة، فإذا جاوزت إلى ستين فقد أتى عليك عشرون سنة في النقصان وهي نصف الأربعين الذي هو منتهى القوة فقد افتقدت من نفسك نصف القوة فلذلك صارت حجة عليك فأوجب لك حرمةً بأن رزقك الإنابة إليه فيما يحب وهو التذكر، فإذا تذكرت رزقك سبحانه الإنابة إليه في الطاعات، ولم يخذلك حتى يصير عمرك وبالاً وحجة عليك … قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «ألا أنبئكم بخياركم؟» قالوا: بلى، يا رسول الله، قال: «خياركم أطولكم أعمارًا إذا سددوا”

وقال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أراد الله بعبد خيراً استعمله»، قيل: كيف يستعمله؟ قال: «يوفقه لعمل صالح قبل الموت)).

وجاء في الحديث الصحيح قول رسول الله صلى الله عليه وسلم -: «إذا أراد الله بعبد خيراً عسَّله»، قيل: وما عسّله؟ قال: «يفتح له عملا صالحاً بين يدي موته حتى يرضى عنه جيرانه» أو قال: “من حوله”.

ومعنى عسَّله: من العسل وهو طيب الثناء، وقال بعضهم: هذا مَثَلٌ، أي وفّقه الله لعمل صالح يُتْحفه به كما يُتْحف الرجل أخاه إذا أطعمه العسل.

يا صديقي يا ماجد: يُذكَر عن عيسى بن مريم – عليهما السلام – أنه مر بمشيخة فقال لهم: معاشر الشيوخ أما علمتم أن الزرع إذا ابيضّ ويبُس واشتد فقد دنا حصاده؟ قالوا: بلى، قال: فاستعدوا فقد دنا حصادكم

وهذا توبة بن الصمة وكان محاسبا ًلنفسه فحسب يوماً فإذا هو ابن ستين سنة فحسب أيامها فإذا هي أحد وعشرين ألف يوم وتسعمائة يوم فصرخ وقال: يا ويلتي، أألقى المليك سبحانه بواحد وعشرين ألف وتسعمائة ذنب، كيف وفي كل يوم ذنب؟! ثم خرّ مغشياً عليه فإذا هو ميت، فسمعوا قائلاً يقول: يا لك ركضةٌ إلى الفردوس الأعلى.

يا ماجد بن سليمان لقد أحالتك الدولة على التقاعد (منْ زمان) منذ زمان طويل يوم كنت في الرابعة والأربعين … وقلت لك وقتها ما قاله الشاعر:

إن التقاعدَ فرصة ذهبية … لزيادة الحسناتِ في الميزان

إن التقاعد فرصة ذهبية … لزيارة الإخوان والخِـــــلان

وستحال إلى التقاعد من الحياة كلّها فقد دخلت عالم الستين فاحرص على التقوى والإحسان

إنّ التقاعد من الحياة فرصة ذهبية للقاء حبيبك الرحمان

إنّ التقاعد من الحياة فرصة ذهبية للفوز بفضله بالجنان

قال الفضيل بن عياض لرجل: كم أتى عليك؟ قال: ستون سنة، قال: فأنت منذ ستين سنة تسير إلى ربك يوشك أن تبلغ، فقال الرجل: إنا لله وإنا إليه راجعون، قال له الفضيل: أتعرف تفسيره؟ قال الرجل: فسره لنا يا أبا علي، قال: فمن علم أنه عبد الله وأنه إليه راجع، فليعلم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف فليعلم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسؤول فليعد للسؤال جوابا، فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة، قال: ما هي؟ قال: تحسن فيما بقي يُغفر لك ما مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي أُخِذت بما مضى وما بقي

وقال – صلى الله عليه وسلم -: «الشيب نور المؤمن، لا يشيب رجل شيبة في الإسلام إلا كانت له بكل شيبة حسنة ورفع بها درجة» (حديث صحيح في صحيح الجامع).

يا ماجد: إن المرء المسلم ينبغي له أن يكون على ما يحبه الله تعالى في كل وقت وحين، شابا كان أو كهلا أو شيخاً، لكن الأمر أكثر تأكيدا في حق كبير السن.

لقد ذهب أكثر عمرك في شأن الدنيا ولم يبق إلا القليل جداً من العمر – والأعمار بيد الله – فلتجعل ما بقي لك من عمرك أو أكثره في شأن الآخرة، فإنها والله الحياة الحقيقية كما قال تعالى: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ} [العنكبوت:64] والمعنى: (لهي دار الحياة التي لا موت فيها، ولا تنغيص يشوبها كما يشوب الحياة الدنيا)

ولأن الغالب (أن الشيخ قد حفظ العلوم والتجارب الكثيرة ومارس الأمور وخبِرها وكثرت تجاربه، وهذه الأحوال تعينه على وجوه الفكر وقوة النظر، فقامت مقام النقصان الحاصل بسبب ضعف البدن والقوى)

فإن المطلوب منك تجاه الآخرين: بذلُ الرأي الحسن والمشورة الصادقة والتعليم النافع لمن دونك، فذلك منتظر منك أكثر من غيرك.

أما تجاه نفسك: فعليك الاجتهاد في الذكر والاستغفار وألوان العبادة وملء الوقت بها فهذا مطلوب منك أكثر ممن هو دونك في السن.

ولئن كان يطلب كل ذلك ممن بلغ هذا العمر فإنه لا يعني التبتل وترك الدنيا تماماً، فإن ذلك مخالف للفطرة التي فطر الله الناس عليها، ولكن المطلوب منك مزيد عناية بأمر الآخرة الباقية، والتخفّف من الدنيا العاجلة الفانية.

جاء عند البخاري أن – صلى الله عليه وسلم – قال: ((لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: في حب الدنيا، وطول الأمل))

وقال: «يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنتان: حب المال وطول العمر» وعند مسلم: «يهرم ابن آدم ويشب معه اثنتان: الحرص على المال والحرص على العمر».

يا ابن الستين يا كلّ من بلغ الستين قال – صلى الله عليه وسلم -: «إنما الأعمال بخواتيهما» [رواه البخاري]. فعلى الخاتمة سعادة الآخرة أو شقاوتها

جاء رجل إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، قال: يا رسول الله، أي الناس خير؟ قال: «من طال عمره وحسن عمله»، قال: فأي الناس شر؟ قال: «من طال عمره وساء عمله”.

قال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نعيّر بطول العمر، قد نزلت هذه الآية: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة … فمن عمّره الله تعالى إلى أن بلغ الستين فأكثر، فليجعله (سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى)، وهو (عمر التذكر والتوفيق).

يا صديقي العزيز: يا ابن الستين ختاما أوجز لك أولاً ولكل من بلغ الستين أمورا ينبغي عليكم فعلها والحرص عليها ومنها:

1. الإكثار من دعاء الله تعالى ببعض ما ثبت عنه – صلى الله عليه وسلم – بما يناسب هذه المرحلة، مثل: «اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي» فإنك لا تدري: أيهما خير لك، الموت أم الحياة؟

وكقوله – صلى الله عليه وسلم -: «اللهم اجعل أوسع رزقك عليّ عند كبر سني، وانقطاع عمري» قال المناوي: أي إشرافه على الانقطاع والرحيل من هذه الدار، فإنّ الإنسان عند الشيخوخة قليل القوة ضعيف الكد عاجز عن السعي فإذا وسع الله عليه رزقه حين ذلك كان عونا له على العبادة.

2. الإكثار من الذكر والاستغفار عن خطئك وتقصيرك فلا ينبغي لك حينئذ إلا الاستغفار والطاعة والإقبال على الآخرة بالكلية وكما قال الشاعر: دعْ عنك ما قد فاتَ في عهد الصبا … واذكر ذنوبكَ وابكِها يا مُذْنِبُ

3. الزيادة من علمك الشرعي لمعرفة مراد الله تعالى، واستدراك ما فاتك، فإنه ((من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين)) وهذا يشمل كل أحد حتى كبير السن، فإن العلم ليس له سن معين، بل الأمر كما قال الإمام أحمد: مع المحبرة إلى المقبرة -.

4. توجيه قلبك وهمّك إلى الدار الآخرة، حيث لم يبق لك إلا القليل، وليس بمقبول منك أفعال الشباب وفتوتهم، ولا أعنى أن تهجر الدنيا وتتركها تماما ولكن ينبغي عليك الإقبال على الآخرة بالكلية لاستحالة أن ترجع إلى الحالة الأولى من النشاط والقوة.

أترجو أن تكونَ وأنت شيخٌ … كما قد كنتَ أيام الشباب

لقد كذبتْكَ ليسَ ثوبٌ … خليقٌ كالجديــــــــــدِ من الثيابِ

5. أكتب وصيّتك بما يرضي الله …واكتب ما لك وما عليك، كما جاء في الحديث المتفق عليه: «ما حقُّ امرئ مسلم له شيءٌ يريد أن يوصي فيه، يبيت ليلتين إلا ووصيته عند رأسه» ولا تزيد أو تنقص في وصيتك عما شرعه الله تعالى وتذكّر قول صلى الله عليه وسلم – ((إن الرجل ليعمل بطاعة الله أو المرأة ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضارَّان في الوصية فتجب لهما النار)).

6. أكثر من صلة الأرحام وأحسن إليهم لعل الخاتمة تمحو ما قبلها من تقصير أو إساءة.

7. اعمل على التحلل ممن أخطأت في حقهم بغيبة أو تعد على حقوق مالية أو معنوية قبل ألاّ ينفعك مال ولا بنون.

8. احرص على المكسب الحلال والمطعم والمشرب والملبس الحلال ((أطيب مطعمك تُستجب دعوتك))

9. ارسم لنفسك برنامجاً يومياً في الزيادة من الذكر والعبادة تستثمر فيه ما بقي من عمرك.

10. لا يفوتك أن تتصدق كل يوم ولو بشيء يسير، وحاول أن تجمع لك في بعض الأيام بين الصدقة والصوم وعيادة المريض واتباع جنازة لعلك تنال ما وعد به الرسول – صلى الله عليه وسلم – في قوله: «ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة» [رواه مسلم].

11. كرر الأعمال العظيمة أو أكثرها ففيها متعة لا يذوقها ولا يعرفها إلا من عاش مثلها، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة).

12. لا تترك متابعة أمور أبنائك وبيتك، ولكن فوّض ودرب أبناءك وأشرف عليهم، وباشر أمور معاشك سويعات قليلة

{وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [القصص:77].

قال الحسن وقتادة: معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك.

13. وأخيراً يا صاحب الستين احرص على أن يستمر عملك بعد موتك بإحدى الثلاثة الأمور أو كلها التي ذكرها النبي – صلى الله عليه وسلم -: ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)). نوّر الله قلبك بنور الإيمان وعقلك بنور المعرفة وأدخلك برحمته التي وسعت كل شيء أنت وكل مسلم ومسلمة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى