د. الحسبان يكتب .. تسعير المحروقات بين نموذجي “عقل الدولة” و”شطارة الدكنجي”.

#سواليف

تسعير #المحروقات بين نموذجي ” #عقل_الدولة ” و” #شطارة_الدكنجي “.

د.عبدالحكيم الحسبان

قبل أسابيع قليلة وعدت #الحكومة واستطرادا فهي قد توعدت برفع متواتر لأسعار #المحروقات لتصل إلى مستويات قياسية، وبما يحافظ على سمعة الأردن ومكانته على صعيد البلد الأكثر جنونا في #أسعار المحروقات في هذه المنطقة المنكوبة من العالم، وبعد الوعد الذي كان أقرب للوعيد الذي تواتر على لسان أكثر من مسئول في هذه الحكومة، ها هي الحكومة قد أوفت بوعدها مساء هذا اليوم الذي سيحفر في ذاكرة الأردنيين بصفته إنجازا كبيرا لدولتهم على أعتاب المئوية الثانية التي حافظت على موقعها الرائد في منطقة الشرق الأوسط قاطبة بصفتها الدولة الأكثر #غلاء على صعيد المحروقات كما على صعيد أسعار كثير من السلع والخدمات بالنظر إلى مستوى الترابط العضوي الكبير بين أسعار المحروقات وأسعار بقية السلع والخدمات التي تعتمد عضويا على أسعار الطاقة.
وعد الحكومة برفع أسعار المحروقات، لم يكن هناك بد من الوفاء به. فهو لا ينتمي مطلقا لتلك الوعود التي سبق للأردنيين أن سمعوها من كبار المسئولين في هذه البلاد، حينما كانوا يسعون لتمرير قرارات كانت تطلب من الأردنيين تجرع السم والمرارة والعلقم. فوعود كبار القوم عن خروج #اقتصاد #الأردنيين من “غرفة الإنعاش” بمجرد تمرير حزمة القرارات المشئومة التي اتخذت ذات يوم أسود، كما وعود كبار القوم بأن الأردنيين سيخرجون من #عنق_الزجاجة في نهاية العام 2018، إذا قبلوا وتجرعوا سم قانون ضريبة الدخل المشئوم، كما تلك الوعود حول تلك الأيام الجميلة التي لم يعشها الأردنيون بعد، هي كلها وعود لا تشبه وعود الحكومة في الرفع المجنون والمنفلت لأسعار المحروقات، فما سبق من وعود لا ينطبق عليها أبدا صفة الوعود التي ينبغي أن تتحقق، وأن تفي بها الحكومة. فهي وعود تجلب العار للحكومة إن هي أوفت بها، أو ببعضها. وحدها الوعود بالرفع المجنون لأسعار المحروقات، هي التي ينبغي أن تفي بها الحكومة.
كأن يمكن للحكومة أن تفي وعدها بالرفع، ومن باب المحافظة على مصداقيتها، أن ترفع سعر الليتر خمسة فلسات أو “تعريفة”، كما كانت تفعل حينما كانت تضطر مكرهة لتخفض أسعار المحروقات التي وصلت قبل أقل من عامين إلى أقل من الصفر ولكنها بقيت في الأردن تباع بأضعاف أضعاف ما تباع به عالميا، ولكنها أصرت أن تكون الزيادة مجزية لتملأ تلك الخزائن التي تذهب إليها أموال المحروقات والتي لا يرى الأردنيون أي أثر لجبايتها حين يقودون سياراتهم على طرق متهالكة، أو حين يبحثون عن الطبابة وينتظرون لأشهر طويلة كي يجرون جراحة بسيطة في أحد المستشفيات. فتسعيرة المحروقات باتت أشبه بلعنة تطارد كل أردني في لقمة عيشه، وبات عمل لجنة تسعير المحروقات كما عمل هيئة تنظيم قطاع الطاقة كما وزارة الطاقة والثروة المعدنية أشبه بعمل مجموعات السحرة التي تصنع التعاويذ والطلاسم حول أسعار المحروقات، وحيث لا يفهم الأردنيون كل تلك الطلاسم التي تتعلق بالتسعيرة الشهرية التي يضعونها، ولكنها باتت تصب كل لعنات تعاويذها وسحرها الأسود على الأردنيين المنكوبين وعلى كل تفاصيل عيشهم.
اليوم أوفت الحكومة بوعدها برفع أسعار المحروقات لتحرق الكثير من المال القليل المتبقي في جيوب الأردنيين، ولتحرق بهذا الرفع أيضا كل الكلام وكل التعب الذي أمضته لجنة تحديث الحياة الاقتصادية في الأردنية جراء أسابيع طويلة من العصف الذهني عن أفضل السبل والوسائل للأخذ بيد الأردنيين، وبيد اقتصادهم. وكي تحرق أيضا تلك الجبال من الكلام عن حياة كريمة وعن غد أقل بؤسا ينتظر جموع الأردنيين.
في ملف الرفع المتواتر لأسعار المحروقات كما في ملف النفط الأسود ثمة جانبان من المهم التوقف عندهما في هذه المقالة التي كتب سريعا، بعد أن سبق وكتبت الكثيرالكثير عن ملف النفط وما فيه من سياسة ومن سياسات ومن مال هو أقرب للبيزنس ومن استراتيجيات للسلطة بعضها محلي وبعضها إقليمي وبعضها دولي بحيث لم يعد ملف المحروقات هو مجرد ملف للمحروقات، شأنه كشأن ملف أسعار البندورة أو الكوسا أو الباذنجان.
ففي ملف الرفع المتواتر لأسعار المحروقات الذي تقبض الحكومة على كل تفاصيله، سيغدو من المفيد التوقف عند تلك الحقبة من الزمن التي كانت الحكومة تمسك بكل مفاصل الاقتصاد والسوق، لدرجة أن أسعار علب السردين والتونا في السوق كانت تحددها الدولة، بل كانت الدولة ممثلة بوزارة التموين تحرر محضرا بحق من يزيد سعر علبة السردين “تعريفة” واحدة إلى المحاكم العسكرية ولتصدر أحكام مشددة ومخيفة بحق من يمارس أي زيادة في سعر السردين التي كان الدولة تحدد سعره. ما هو ملفت في ملف النفط والمحروقات، هو إصرار الدولة التي كانت تحدد سعر علبة السردين على الانسحاب من معظم نشاط السوق وتركه للقطاع الخاص بحيث تخلت الدولة عن دورها في ملكية قطاع الاتصالات والبوتاس والفوسفات لتتركه للقطاع الخاص ولعالم رجال الأعمال، ولكنها تصر على الإمساك في ملف النفط استيرادا وتكريرا وتسويقا وتسعيرا ولا تسمع لعالم رجال الأعمال أن يقتربوا منه ما خلا بعض الأسماء القليلة.
وأما الحقيقة الثانية المثيرة للاهتمام في ملف تسعير النفط في البلاد، فهي تلك المتعلقة بالتسعير وبتلك التلقائية والميكانيكية المريبة والحزينة في الرفع المتواتر لأسعار المحروقات بحيث يغيب عقل الدولة ويسيطر على عملية التسعير منطق “الدكنجي” وشطارته. فحين ارتفع سعر برميل النفط ليصل إلى عشرين دولارا كانت استجابة الحكومة هي رفع سعر صفيحة البنزين، وحين ارتفعت الصفيحة إلى 23 دولارا اكتفت الحكومة برفع أسعار المحروقات، وحين ارتفع سعر برميل النفط إلى خمسين وستين دولارا، قررت الحكومة وبصورة تلقائية وبدون أي تردد رفع أسعار المحروقات، بل أجزم أن الحكومة كانت تبحث فيما يجري في بوركينا فاسو وفي جزر سليمان عن أي أحداث يمكن أن تسوقها للأردنيين باعتبارها سببا يبرر ويسوع لرفع جديد في أسعار المحروقات. توالت أسعار النفط في الارتفاع لتصل 80 دولارا وتسعين دولارا ولكن استجابة الحكومة والقرارات الوحيدة التي كانت تتخذها هي الرفع الأوتوماتيكي والفوري والتلقائي وبدون أي رمشه عين لأسعار المحروقات.
لأن المحروقات هي سلعة لا تشبه مطلقا السلع الأخرى مثل البندورة والخيار والكوسا، وحيث سلعة النفط وسعرها يؤثر مباشرة في أسعار كل السلع والخدمات، فإن التعاطي مع ملفها يخضع وفي أي بلد في العالم إلى حسابات دقيقة وحيث يظهر ما أسميه ب”عقل الدولة” ومنطقها. ففي المجتمعات التي يحكمها عقل الدولة، يتم وضع السيناريوهات المختلفة التي تفترض ارتفاعات مفترضة في أسعار الطاقة، بحيث يتم دراسة كل ارتفاع في أسعار الطاقة وما يمكن أن يشكله من تأثيرات في أسعار السلع والخدمات، وعلى تنافسية السلع التي تود الدولة أن تصدرها، وعلى تنافسية الخدمات التي تقدمها، في حال رفع أسعار المحروقات، كما يتم دراسة التأثيرات المختلفة للأسعار المختلقة للطاقة في قطاعات أخرى مثل النقل، إضافة لتأثيراتها الاجتماعية المحتملة من قبل الزيادة في مستويات الفقر أو الجوع أو الموت من البرد والتجمد.
وفي البلاد التي يحكمها عقل الدولة، لا تكتفي الحكومات بوضع السيناريوهات المختلفة للارتفاعات المحتملة، بل تذهب إلى وضع سيناريوهات في نمط الاستجابات التي ستتخذها الحكومة في حال الوصول إلى هذه الارتفاعات في أسعار الطاقة، وتختلف هذه الاستجابات وتتفاوت في مستواها التكتيكي والاستراتيجي ما بين تطوير سياسات لتقليل استهلاك الطاقة، وتقديم حوافز للتحول إلى وسائل النقل الموفرة للطاقة، وصولا إلى وضع استراتيجيات لتفعيل خيارات لتوليد الطاقة البديلة إذا وصلت مستويات الأسعار مثلا إلى حد تؤثر فيه بصورة مأساوية على حياة الناس والاقتصاد.
في بلادنا الحبيبة، ارتفعت أسعار الوقود أكثر من مئة مرة، وكان قرار صانع القرار هو مجرد رفع سعر المحروقات. الرقع يقابل فقط بالرفع. رفع سعر النفط تقابله الحكومة وبدون تردد برفع سعر المحروقات. لم يحدث ولو لمرة واحدة أن تحدث مسئول عن امتلاك الدولة لسيناريوهات مختلفة حول الارتفاعات المحتملة للأسعار، وعن خطط الدولة التكتيكية والإستراتجية التي ستوظفها الدولة عند كل مستوى معين من الأسعار، وبما يحافظ على معادلة سعرية تحفظ للمستثمر حقه في انتاج سلعة ذات سعر تنافسي، كما تحفظ للاقتصاد الكلي حقه في عدم استنزاف رصيد البلاد من العملات الصعبة، كما يحفظ للمستهلك حقه في ملء خزان وقود سيارته وبما يبقي في جيبه بعض المال كي يدفع قسط الجامعة لابنه أو أبنته.
في تحليل تلك الممارسة الطويلة في رفع أسعار المحروقات التي تنتمي لعقل الدولة والتي تشبه “شطارة الدكنجي” الذي يرفع الأسعار بصورة ميكانيكية وتلقائية بمجرد ما تتوافر الفرصة لرفع سعر السلعة، أحزم أنه ومع كل رفع في أسعار المحروقات، فان الحكومة تتمكن فعلا من زيادة رصيدها من المال الشحيح الموجود في جيوب الأردنيين، ولكن الحكومة لا تلتفت مطلقا إلى حجم الخسارة التي تفقدها من رصيدها ومن شرعيتها في كل مرة تزيد من أسعار الوقود بعد أن بات الأردنيون ينظرون لملف النفط وقد بات في عهدة “دكنجي” شاطر وليس في عهدة عقل الدولة الذي يمكن له أن يريحهم. في ملف النفط تربح الدولة مالا سيبقى مهما كبر مجرد دراهم قليلة، في مقابل خسارتها ثقة الاردنيين وفي مستوى الشرعية التي يمكن أن يمنحونها لدولتهم ولأي حكومة تتولى أمر القيادة فيها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى