حول الأدب الساخر في بلد النوادر (دراسة موجزة حول أثر الأدب الساخر في المجتمعات الإنسانية)

12355289_10153778651891941_276721290_n

كتب : وائل المكاحلة

ربما كانت من أقدم المهن وأكثرها جذبا لمستهلكيها عبر التاريخ.. مهنة الراوي، هذا الرجل ترحل وقرأ وتعرف وتبحر في ثقافات عديدة، كي يأتي ويجلس فيجتمع حوله الناس ويبدأ حديثا متبلا بخبراته وأسلوبه في التشويق وجذب المستمع، الجلسة كانت لا تخلو من سخرية محببة وعبرة يتعظ بها الناس، يقال أن مهنة الراوي بدأت من أسواق بغداد ثم إنتشرت حتى وصل صيتها إلى أوروبا، لدرجة أن الروائي الفرنسي الكبير سومرست موم (1874 – 1965) قال بصريح العبارة: “أتمنى أن يعود بي الزمن للخلف وأصبح راويا في سوق بغداد، فإن أعجبت قصصي الناس تعشيت.. وإلا مت جوعا”…!!

في مجاهل أفريقيا أيضا نجد رجال القبيلة مقسمين على أربع مهن رئيسية: الراعي والخزّاف والمزارع والصياد، والذي لا يجيد شيئا مما تقدم إما أن يصبح ساحر القبيلة أو راويها أو يموت منبوذا !!.. الراوي عندهم له خصوصية تصل حد التقديس، يسمونه “الميزي” ولا أعلم معنى الكلمة تحديدا، الميزي و الساحر هما أغنى رجال القرية، الصياد يتذكرهما بجزء غير يسير من الثور البري، والخزاف يتحف بمصنوعاته بيتيهما، والراعي يرعى ما لهما من حيوانات مجانا، يجتمع الناس حول الميزي ليلا كبارا وصغارا رجالا ونساءا.. من الزعيم حتى المقمط في السرير ليستمعوا لحكاياته التي تكون أسطورية بالعادة، ولا تنسوا أن لكل مكان خصوصيته، ففي الوقت الذي تزجي قصص ألف ليلة وليلة والشاطر حسن ساعات الملل لدينا، تكون حكايات الأسد الملك والنمور والأفاعي هي سيدة الليالي لدى الميزي وجمهوره، تتعدد الثقافات ولا نستطيع أن نفرض مقياسا واحدا للجميع نقيّم على أساسه تقدم الأمم وتأخرها..

الراوي تطور مع الأيام فبدأ يأخذ أشكالا أخرى مع الحفاظ على مهمته الأزلية.. تسلية الناس، فبدأت تظهر أشكال أخرى تعبر عن ثقافات المرحلة، جاء لاعب الماريونيت ومسرح العرائس ثم المشخصاتي أو الممثل، هؤلاء كانوا – كأي شئ مرتجل – يقفون في الشوارع والميادين ليمارسوا هواياتهم ويجنون قوت يومهم من المارة الذين يتوقفون ليشاهدوا، لأن نداء الفنون في أعماقهم لا يختلف كثيرا عن نداء الحاجة للمأكل والمشرب.. هي حاجة بيولوجية أخرى…!!

إهتمت الحكومات العربية حديثا في أماكن شتى بالفنون، وعرفوا في وقت مبكر أن المسرح الكوميدي متنفس للناس حين تضيق بهم سبل التعبير، حتى عربنا الأولون قالوا: “بالمزاح تشفى الأرواح”، لذا كان الراوي يضفي على حكاياته بعض الكوميديا الساخرة التي تتكلم عن أوضاع الناس وتصف آلامهم وتناقش سياسات الدولة، الولاة هنا إنقسموا بين غبي سجن كل هؤلاء ومنع الناس من التفريج عن بعض ضيقهم، وبين ذكي عرف كيف يرخي الحبل للراوي والمشخصاتي ولاعب مسرح العرائس كي ينفس عن الناس فيخف غضبهم ويهون عليهم ما يلاقون من ظلم وإضطهاد..

في مصر مثلا وأيام الملك “فؤاد الأول” يظهر مسرح “كشكش بيك” الذي كان كوميديا تناقش الحياة ومتاعبها مع ضيق الرزق والضرائب الباهظة والبوليس السياسي الذي يملأ الطرقات، فيحاربه الملك ويشرد رواده، كونه كان من المصائب التي لا تضحك في وجه شعبها أبدا، الشاعر الكبير “بيرم التونسي” أيضا ظهر في تلك الفترة ليلقي مزاحه الشعري الثقيل على أسماع بطانة الملك، وذكر فيما ذكر الملكة “ناظلي” ومغامراتها العاطفية، فكاد الملك أن يقتله لولا وسطاء الخير الذين خففوا العقوبة إلى النفي خارج الوطن وقتها، وفي عهد الملك “فاروق” الشاب الذي كان يتقد ذكاءا وحيوية.. عاد مسرح “كشكش بيك” إلى الحياة، وعاد “بيرم التونسي” بعد غياب دام عشرين عاما في باريس ليموت في بلده !!.. أيضا الريحاني كانت له تجارب مسرحية أهلته ليحمل لواء “تشارلي شابلن” في التعبير عن البؤس والظلم والتهميش، ورث منه هذا الفنان الكبير “مدبولي” ثم تبعه “المهندس”.. كل هؤلاء كانوا لسان حال الشعب، يتألمون بآلامه ويغتسلون بهمومه على شاشات السينما والمسرح، ذهبوا جميعا ليأتي بعدهم “عادل إمام” الذي حاول محاكاتهم بطريقته المضحكة، لكن من الصعب على مليونير برجوازي أن يجسد أدوار البروليتاريا المطحونة مهما حاول…!!

في سوريا أيضا ظهر “غوار الطوشه” أو “دريد لحام” ليخاطب الجمهور المتعطش لأي نصر في زمن الهزائم، خاطبهم في “ضيعة تشرين” ليعزي فشل حرب تشرين 1967 إلى القيادة العسكرية، طبعا القيادة العسكرية هي ذاتها التي تحكم البلاد بالساطور، لكن لمحة الذكاء الخبيث الذي تحلوا به جعلهم يغضون الطرف في البداية عن “غوار الطوشه”، ثم يدعمونه بعد ذلك لتُمول مسرحياته تاليا من ضرع الدولة !!.. هذا ذكاء لا شك فيه قلده الكويتيون في مسرح “عبد الحسين عبد الرضا” وشركائه في عدة مسرحيات وأعمال تلفزيونية..

في بلادنا كانت الأعمال الفنية في ذروة عطائها في الثمانينات لا تناقش السياسة بشكل مباشر أبدا، كوميديا الشارع وحياة البادية والدراما الأردنية كانت مطلوبة في كل مكان في العالم العربي، الرسائل التي أوصلتها هذه الأعمال البسيطة كانت أقوى ألف مرة من رسائل تطلقها أعمال أخرى بشكل مباشر، لذا كانت مسلسلات خفيفة كــ”حارة أبو عواد” و “العلم نور” مطلوبة جدا عربيا رغم إختلاف الثقافات، أذكر حين كنت أعيش في ليبيا أن مسلسل “أبو عواد” مثلا حظي بشعبية أكثر بكثير من التي حظي بها في وطنه، هناك مسلسل يسمى “عليوة” قامت التلفزة الليبية بشراء حقوق بثه لتعيده ألف مرة، أذكر أنني كنت أرى الحلقة الأخيرة منه.. فقط ليبدأ عرضه من جديد بعدها بأسبوع، هذا كله مع خلو الشوارع في ساعة عرضه لشدة تفاعل الجمهور معه..

السؤال هنا.. أين الدراما الأردنية الآن؟!!.. ولماذا تمتلئ قنواتنا المحلية الخاصة والعامة بمسلسلات مستوردة سطحية تخدش الحياء الأسري وتصنع فينا ما لم يصنعه إحتلال ولا غزو؟!!.. ثم أين الإنتاج المحلي سواء من الدولة أو المؤسسات الخاصة؟!!.. على قدر علمي أن مخرجينا المتميزين تلتقطهم تلفزيونات دول الجوار من قلة العمل، والكتّاب المحظوظون يحذون حذوهم، وغير المحظوظين يذوون سريعا وينسون الموضوع بعد الرواية الثانية لتتلقفهم المكاتب العمومية فيقضون حياتهم خلفها ينعون مواهبهم المسفوحة إهمالا، لماذا لا ترعى الدولة هذه المواهب المربحة جدا.. خصوصا وأن الأعمال الفنية الأردنية مطلوبة في الخارج بشدة؟!!.. وبعيدا عن المكاسب المادية التي ستعود من الإنتاج الفني.. ألا ترى الدولة أنها تخنق الناس تدريجيا في معاناتهم اليومية من الضيق الإقتصادي جراء عزف الحكومات المنفرد بعيدا عن تطلعات شعبها؟!!

ربما هو سؤال صعب..الفن كان ولا يزال وسيلة للتنفيس عن الناس وهمومهم اليومية، لكننا نهمله كما أهمله غيرنا، فخسروا حتى صبر شعوبهم على البلاء…!!

أتكلم الآن بعد اللقاء الرائع الذي حظيت به الليلة مع أربعة من عمالقة الفن الأردني..

الفنان الكوميدي الرائع الأستاذ موسى حجازين
أستاذي الكاتب أحمد حسن الزعبي
الأستاذ الكاتب يوسف غيشان
والكاريكاتير عمر العبدللات

ساعتان من الضحك البرئ العفوي الدافئ، حيث لم يقصد هؤلاء الرائعون إضحاكنا بقدر ما أرادوا توصيل رسالة فحواها أن نحب بلادنا ونحافظ عليها، رغم كل ذي منصب لا يهتم سوى بمصلحته دون مصالح الوطن، وكل مسؤول أثقل كاهل المواطن وزاد همومه، وكل مؤتمن خان نفسه قبل أن يخون الأمانة..

السخرية كانت طير الزاجل الذي أوصل الرسالة، وهكذا تعلمنا على أيدي هؤلاء كيف تعبر السخرية عن حب الوطن…

وائل مكاحله

اظهر المزيد

تعليق واحد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى