الأحباب والغياب / د . ديمة طهبوب

الأحباب والغياب
كان لوالدتي في بلاد الغربة أيام الدراسة صديقة قطرية كانت بمثابة الأخت والأهل لها، وكانت كلما استحثتها لزيارتها وإطالة المكوث قالت: أخاف أن أثقل عليكم ثم تنشد بلهجتها الخليجية الجميلة:
لا تكثر الدوس على الخلان ترى يملونك
لا أنت ولدهم و لا طفل يربونك
ربوك شهر شهرين والثالث يملونك
و على الرغم أن الغربة و افتقاد الوطن و الأهل من الحالات التي يحتاج فيها المرء الى زيادة جرعات الاقتراب و الود الا أن الاسلام كان دائما وسطا بين التطرفات و التجاذبات العاطفية فنبهنا الحكمة الى أن «أحبب حبيبك هونا ما عسى أن يكون بغيضك يوما ما، و ابغض بغيضك هونا ما عسى أن يكون حبيبك يوما ما» كما ان الاسلام أول من رسخ ثقافة المساحة الشخصية التي ينادي بها الغرب private space، و جعل أوقاتا للزيارة و قواعد للاستئذان داخل البيت و خارجه حتى يبقى حبل الود ممتدا بين الناس دون أن يفسده كثرة التطفل و الترداد أو اقتحام الخلوات و الحرمات
و هذا لا يتنافى أن مشاعر الأخوة و الصلة هي من أعظم ما يحث عليه الاسلام حتى انه جعل صلة الرحم من اسباب زيادة الرزق و طول العمر، و جعل مكافأة الحب في الله منابر من نور يوم القيامة، و لكن كل شيء بمقدار و قسط، و المحبة ليست فقط شعورا قلبيا و لكنها أيضا سلوك عملي لا يقتصر على لقاء الأجساد و تقابل الوجوه، فالدعاء بظهر الغيب زيارة و صلة، و حسن الذكر و الذكرى زيارة و صلة، و الخدمة و قضاء الحاجات زيارة و صلة، و الذب عن العرض و السمعة صلة، و الرسالة و الايميل و المكالمة الهاتفية كلها زيارة و صلة، و الوسائل تتنوع و تتعدد بحسب العصر و الزمان و المكان بين الأكثر و الأقل حميمية
و الثقافات بين الشرق و الغرب مختلفة في تعريف المحبة و الصلة و الزيارة و ظواهرها، و حتى في داخل الثقافة الواحدة هناك تباين، فبينما الثقافة الشعبية تقول أن «البعيد عن العين بعيد عن القلب» نجد الشاعر يؤكد أن البعد لا يغبر ما في القلب:
لان أخرت زيارتي عنكم لعذر فإني في المودة أول
فما الود تكرير الزيارة لكن على ما في القلوب المعول
فيما يشترط آخر الرؤية و الزيارة كدليل على المحبة و ان من يحب يحب معاينة الحبيب صباح مساء فيقول:
و ما زرتكم عمدا و لكن ذا الهوى الى حيث يهوى القلب تهوي به الرجل
و الثقافة الغربية تؤمن بالعكس تماما و ان الغياب و الامتناع يشعل المحبة و الأشواق و يوطد العلاقات فيقول المثل الانجليزي absence makes the heart grow fonder
و في عالم يوصف بالجفاف العاطفي على كل مستويات العلاقات الانسانية، كان جميلا أن أغيب عن الكتابة انشغالا بالعمل لأجد رسائل لأصدقاء و أحباء حرصوا على التواصل معي و ان كنت بعيدة، كان جميلا أن أغيب عن زاويتي في الجريدة عدة أيام فيعدّ علي القراء أيام الغياب، و يتفقدونني بعدما طننت انهم ملوني في الفترة الأخيرة لقدر ما أثقلتهم بالكتابة، و لكن الأحبة و الأصدقاء و القراء بقوا على العهد و التواصل خلال تلك الأيام رسالة برسائل، و مددا و تعليقا و نصحا و إرشادا، و قد خفت أن الكتابة و فيها شيء من الوعظ قد تؤدي بالقارئ الى الملل، و قد يصبح الكاتب وعاء فارغا اذا لم يملأ مكان ما يعطيه بالاستزادة من العلم و الأدب و الثقافة أو ينفذ ما ينصح به، فيصبح كما قال أحدهم كالمنخل يرسل أطيب ما فيه و يمسك الحثالة، و إذا كانت الكتابة بها شيء من الوعظ و التوجيه فالأولى بها التنويع و ترقب المناسبات و تحين الفرص حتى يكون الأثر أكبر و أدوم كقطرات الماء تنساب ببطء و على توأده و لكنها تحفر الصخر، و قد اتبع رسول الله مع صحابته نفس الأسلوب فقال عبد الله بن مسعود» كان رسول الله يتخولنا بالموعظة مخافة السآمة علينا»، أي بين الحين و الحين لان القلب أسرع تقلبا من القدر إذا استجمع غليانا، فهو بحاجة أن يؤمن ساعة و يروح عن النفس ساعة أخرى دون خروج عن حدود الايمان
لا بد أن الكاتب يتوجس دائما خوفا من ملل قرآءه، فحتى الشمس كما قال الشاعر لو بقيت في الفلك دائمة لملها الناس من عرب و من عجم، و مشكلة أن يملَّ القراء من الكاتب فهم بالنهاية رأس ماله، و لكن البحث عن الجِدة و الجديد أمر مرهق، فالكتابة قد تحمل في طياتها جزءا من الموهبة و لكنها أيضا علم و قراءة و إحاطة، و هذا قد يحتاج الى تفرغ و سعي دؤوب من الكاتب لتعلم المزيد لاعطاء الجديد لقرآءه، فإن القارئ الذي يعطي الكاتب من وقته ليقرأ له ،و من ثقته و من اعجابه أو حتى مخالفته يستحق من الكاتب الاحترام و بذل الجهد
محظوظون نحن بالأصدقاء و القرّاء الذين يسألون عنا كلما ابتعدنا و يتفقدوننا إذا غبنا و يحفظون لنا مكانا دائما في قلوبهم و ذاكرتهم…بمثلهم تحلو الحياة و لمثلهم ما زلنا نكتب

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫4 تعليقات

  1. الكاتب الجيد مقل عبارة قرأتها فوجدتها تنطبق على معظم الكتاب الذين أقرأ لهم للحضور بعد الغياب طعم خاص

  2. الى الدكتورة ديمة طهبوب …… السلام عليكم ورحمة الله .. الكتابة ليست مجرد كلمات نخطها على الورق…… وليس من الضروري أن نكتب الكلام المنمق الموزون الذي نطعمه ونزينه بايات القران الكريم والشعر ….. وكلما غابت كلمة ال ( أنا ) و (كان لي .. ) عن النص الأدبي زاد اتزانا وجمالا … كم كنت أتمنى أن أقرأ يوما مقالا جريئا عن عوام الناس ومشاكلهم دون أن أستشعر بين السطور حب الذات والتنظير على الناس …. ورب أشعث أغبر لو دعا الله لأجابه …. أما أن يكون موضوع كل مقال …. حدثتني ابنتي …. وكان لوالدتي صديقة ……. واجتمعنا ذات ليلة ….أصدقك القول لا أعتقد أنه يجتذب الا دائرة الاصدقاء المقربين … مع احترامي

  3. يكفينا فخرا بك ما تكنيه لقراءك من وفاء واخلاص وكلمة طيبة وصادقه ..
    شكرا لك ويسعدنا تواصلك دائما 🙂

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى