نسوان حارتنا / يوسف غيشان

نسوان حارتنا

في حارتنا كانت الأسماء متشابهة ومكررة، كان عندنا 5 سيدات باسم مرثا و6 زريفة و 2مريم و4 عفيفة..و3 كاترينا.
«كاترينا الخطّاطة» هي الأشهر بين الجميع، وهي عجوز ضئيلة الحجم بأنف يشبه شامة كبيرة في وسط الرأس، وعينين ذئبيّتين، وفم بضرس أو بضرسين، ترتدي بشكل دائم ودؤوب ثوباً أسودَ بالغ القذارة والإهتراء، وهي لا تغتسل أبداً،، لكن الجميع كان يحترمها؛ حتى الأطفال كانوا يخافون التحرش بها لسلاطة لسانها ثانياً، ولتحذيرات الأهل أولاً.
تقول كاترينا الخطّاطة إنها، عند بلوغها سن العشرين، جاءها «طارش» بثياب بيض ووجه يتوسط هالة لامعة، في ما يشبه المنام، وقال لها ما معناه إنها منذورة لقراءة حظوظ الناس ومعرفة مستقبلهم مجاناً.
تروي عنها النسوة قصصاً عجيبة في مجالات التنبوء بما سوف يحصل، هذه تقول إنها توقعت نهاية مأساوية للشاب جابر، قبل أن يسقط عن ظهر التراكتور وتنهال فوقه شوالات القمح، بعد أسبوع من تنبؤها بـ(شغلة ما هي زينة رح تصير في بيتك يا أم جابر)، وقد حصل ما حصل، وتوفي جابر، رغم أن والدته قامت بحرق البخور في البيت طوال الأسبوع. ظل والده يبكيه، حتى أصيب بالعمى.
والدة جابر كانت أقوى، وقامت بتبني أخيها الأصغر ليكون إبناً بديلاً لها بعد وفاة والدها، دون أن تتوقع كاترينا هذه الوفاة (في الواقع لم يسألها أحد) لم تكن وفاة جابر هي النبوءة الوحيدة ذات النهاية السيئة من تنبؤات كاترينا الخطاطة، فقد توقعت نهاية مؤلمة لنعمان -الذي كان يناكفها- وهذا ما حصل بعد أقل من عام على إطلاق نبوءتها، حيث أصيب بمرض خبيث بمكان حساس، أدى إلى استئصاله في البداية، شفي لفترة،،

لكن المرض الخبيث عاد وانتشر في جسمه، وتوفي، كما توقعت كاترينا الخطاطة.
عدا ذلك، فإن جميع تنبؤات كاترينا الخطاطة -حتى ذلك الوقت- كانت جيدة ومريحة، حيث تروي النسوة قصصاً عن نجاح أبنائهن، وزواج بناتهن، والحصول على عمل مؤقت لأزواجهن في مشاريع الأشغال التي تسمى (النافعة)، أو هجرة إخوتهن وأقاربهن إلى الخارج (إبنك هشام رح يقطع سبع بحور يا صبحة)، كلها حصلت كما قالت كاترينا، بكل وضوح.
كنا، عندما نرى كاترينا، نتخلى لها -بطيب خاطر- عن كل الحجارة الملوّنة التي اقتلعناها من اللوحات الفسيفسائية، حيث كانت ترميها على الأرض بحركة ماهرة من يدها اليمنى، وتقرأ حظ من يطلب منها، مقابل أن يتبرع بصاع قمح للكنيسة، بعد انتهاء موسم الحصاد، وجني المحصول، أو بأشياء عينية في لحظتها (نقود، بيض.. أي شيء) كانت كاترينا ترسل مغانمها فوراً إلى بيت الخوري.
مررت من قرب كاترينا الخطاطة، ولم يكن في جيبي ديكان فسيفسائية لأعطيها إياها، فقالت دون أن تنظر إلي:
– ديكانك اللي طمرتن بالحوش.. هيهن بجيبتي.
وقف شعر رأسي، وأحسست بقشعريرة، وعرق بارد يدهمني: كيف عرفت كاترينا الخطاطة أني قد رسمت لوحة فسيفسائية، وأخفيتها في حوش دارنا، دون أن يراني أحد، عدا الدجاجات، وقطة سوداء وسخلة كانت ترقبني؟.
كان ذلك قبل زمن، ولم أعثر حتى على لوحتي في اليوم التالي، لم أعثر عليها أبداً أبداً.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى