جبل عمان في سطور / د. رشيد عبّاس

جبل عمان في سطور

من فترة ليست ببعيدة كنت مارا بسيارتي الساعة الثامنة صباحا بالقرب من جبل عمان, تذكرت احد الاصدقاء الافاضل الذين يقطنون هذا الجبل, هاتفته للاطمئنان عن احواله واحوال اولاده وكنت اعرف انه من عشاق الصباح الباكر,…أصر أن ازوره في نفس اللحظة, حاولت التهرب منه الا انه رفض جميع الاعذار, وخلال ربع ساعة كنت فعلا ضيفا عليه, استقبلني استقبالا يعكس اصالة عميقة في نفسه,…كانت الجلسة على بلكونة مستديرة على الطابق الثاني ومطلة على وسط البلد(عمان), وكانت شجرة من نوع الصنوبر قديمة جدا تتكأ بهدوء على احد اطراف البلكونة لتخفي شيئا من ضوء اشعة الشمس الذهبية من كل صباح, وكان هناك طائر الشحرور الاسود يقف على احد اغصان تلك الشجرة ويُخرج اصوات جميلة وغريبة جدا قد تقرأ منها او تلمح ترحيبا من نوع اخر بالضيوف.
كان لمذاق قهوة هذا الصديق(ابو محمد) الصباحية طعما مختلفا عن باقي القهوة, وكان لصوت تلك الطائر موسيقى تختلف عن باقي الموسيقى, وكان لأدب اولاد هذا الصديق ادبا يختلف عن كل الآداب, من على تلك البلكونة سافرت عيوني مع الناس السائرين على اقدامهم وسط البلد(عمان) القريب من جلستنا الهادئة,…فهذا رجل يحمل كيسا بيده ويسير ببطيء, وهذه سيدة تعلق حقيبتها على كتفها مسرعة, وهذا كبير في السن يقف على الاشارة الضوئية منتظرا, وهذه فتاة تحمل كتبها ذاهبة لموقف الجامعة, نعم سافرت عيوني مع انواع السيارات وموديلاتها المختلفة المنطلقة هناك, …كل ذلك كان من على بلكونة الصديق الفاضل (ابو محمد) في تلك الساعة الصباحية الهادئة.
لتلك الشجرة المعمرة, شجرة الصنوبر الف حكاية وحكاية, فقد اخبرني صديقي العزيز, ان جده المرحوم قام بزرع هذه الشجرة في الخمسينات, وكانت شامخة تلتقي عليها جميع طيور وعصافير جبل عمان, واخذت تلك الشجرة تكبر كما يكبر بقية الناس, وها هي اليوم تتكأ بهدوء على احد اطراف البلكونة عاجزة صامتة, لتعانق مع اشعة الصباح الذهبية غناء طائر الشحرور الاسود الذي سكن المكان والزمان,…وتساءلت هناك من على بلكونة الصديق الفاضل (ابو محمد), تساءلت كيف تجمعت هذه الجماليات القديمة معا في مكان واحد, جمال الصباح الباكر, وجمال مشهد وسط البلد(عمان), وجمال صوت طائر الشحرور الاسود, وجمال رائحة كوز ثمار شجرة الصنوبر المخروطية الشكل والراقصة على افق البلكونة, وتساءلت هناك مرة اخرى لماذا اختار الهاشميون اول منزل لهم في جبل عمان؟
يقول اصحاب الذاكرة الجيدة ان ملك الأردن الراحل طلال بن عبد الله بن حسين رحمه الله, الملك الثاني للمملكة الأردنية الهاشمية قد اختار جبل عمان من بين جبال عمان السبعة, وقرر ان يسكن فيه, في منزل متواضع بعد زواجه من الأميرة زين الشرف في العام 1934م (لجمال الموقع) وبالذات في فترة الصباح الباكر, والممزوج بتغريدات فصائل طائر الشحرور الاسود الذي سكن المنطقة قديما,..من يزور المنزل اليوم يرى مدى بساطته المتواضعة سواء من حيث المساحة او الحجم، عاش فيه الملك طلال هو وأولاده، وعاش فيه ابنه الملك الحسين بن طلال رحمه الله إلى أن بلغ 13 عاما، ومن المنازل المجاورة لمنزل الملك طلال في جبل عمان: بيت منكو، وبيت البلبيسي، وبيت وليد مرعي وبيت الشريف شاكر بن زيد, وبيوت اخرى مع حفظ الالقاب لجميع هؤلاء.
بقي ان نقول, مازال جبل عمان يحتفظ بشيء من جمالياته القديمة, وهذه دعوة صادقة لأمانة العاصمة وأمينها المحترم لإعادة ألق ورونق جمال هذا المكان من خلال (ترميم) المنازل والمباني والبيوت والشوارع القديمة فيه, لأنه كان وما زال ابو الجبال السبع في مدينة عمان العاصمة, كيف لا وهو يُطلُ بطبيعته الصادقة على تلك الجبال السبع كاملة بعدل وامانة ودون تحيز.
فاتني ان اقول, ان الصديق ابو محمد تكفل وما زال بالإنفاق على احدى طالبات الجامعة الهاشمية (تخصص كيمياء) والتي تنتمي لعائلة فقيرة جدا, تكفلها لأربع سنوات كاملة, مما زاد جمال المكان جمالا اخر,..ويبقى ابو محمد عنصرا مضيئا من بين عناصر (الجدول الدوري).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى