التوجيهي / داود عمر داود

التوجيهي
التوجيهي امتحان فاشل استخدمه الاوروبيون في العصور الوسطى للفرز الطبقي

محمد ويوسف توأمان أنهيا الصف الأول الثانوي ويستعدان للتوجيهي في العام القادم. ومن ضمن استعدادتهما انهما قررا الهجرة من الاردن الى بلد آخر ليجتازا المرحلة الثانوية هناك، خوفا من أن يفشلا في الاردن، كما يفشل 60% من طلبة التوجيهي. كانت الفكرة في البداية ان يذهبا بمفردهما، لكن التفكير تطور الى ان قررت العائلة كلها أن تهاجر معهما. وهم الان يحزمون حقائبهم للمغادرة خلال أيام. وهذا ما فعلته كثير من العائلات، في السنوات الماضية، كما نقرأ ونسمع، تهاجر وهي وفلذات الاكباد بحثا على النجاح، وتجنبا للفشل شبه المؤكد في التوجيهي.
ربما كانت نتائج محمد ويوسف الدراسية متوسطة، لكن طموحهما اكبر بكثير. فهما ناشطان في أحد الاندية العلمية في عمان، ولديهما اهتمامات واسعة في مجال الهندسة والاليكترونات، وساهما مع زملاء لهما في تصميم وبناء اكثر من جهاز و”روبوت” شاركوا بها في مسابقات محلية، واخرى عالمية، اقيمت في عمان. شباب واعد يضطر لترك أرض الوطن بفعل امتحان التوجيهي!
كثير من الناس لا يعلم ان هذا الامتحان فاشل بكل المعايير والمقاييس، ومن يتشبت به يُلحق ضررا كبيرا بأجيال المستقبل، من شباب وشابات. هذا النوع من الامتحانات، كالتوجيهي، كان يُستخدم في أوروبا خلال عصورها المظلمة، المسماة العصور الوسطى، من أجل الفرز الطبقي، ليتم تصنيف الناس إلى عامة الشعب، والاغنياء، والفقراء، والنبلاء، واللوردات، الى آخر ما هنالك من تصنيفات تتماشى مع نظام الإقطاع. وهذا أمر مخالف، في زماننا هذا، لكل القيم الانسانية وحقوق الانسان، ومخالف أيضا لقيم الاسلام، التي لا تفرق بين بني البشر. فلا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، وكلكم لادم وادم من تراب، والناس سواسية كاسنان المشط، فلا تمييز بين افراد المجتمع، مثل “ناجح توجيهي” يعني شىء و”راسب توجيهي” يعني شىء آخر.
في عصر النهضة، تركت المجتمعات الاوروبية هذه الممارسات المدمرة، والامتحانات المتخلفة، وأطلقت العنان لطاقات الانسان وابداعاته، ليقدم أفضل ما عنده، دون هذا التصنيف الغبي المتخلف. فتقدمت اوروبا وانطلقت في فضاء العلم والمعرفة. ولما استعمر الاوروبيون بلادنا فرضوا علينا ممارساتهم القديمة البالية من عصور الظلام، ورسخوها بيننا، ونحن نسير الان على الارث الاستعماري الذي تركوه لنا للاسف، كالتوجيهي. ممارسات عفنة هم تركوها من اجل ان يتقدموا، ونحن اخذنا بها من أجل أن نتخلف.
لا يوجد بلد متحضر أو متقدم في العالم لديه امتحان توجيهي مثل الذي عند الدول النامية، أو النايمة، كما يقولون. التوجيهي مقصود به إبقاء المجتمعات متخلفة ودون مستوى ركب الحضارة الانسانية. ولن تتقدم دولة ولا شعب ولا مجتمع ما دام يسير على ما سارت عليه اوروبا في العصور الوسطى.
يجب ان تقوم هناك عملية تصليح لنظام التعليم، في بلاد العرب والمسلمين. فتخلف التعليم لا يؤرق الناس العاديين فحسب، بل أيضا يؤرق المسئولين وأصحاب القرار على أرفع المستويات. فقد طالتعنا صحيفة الرأي يوم الخميس 18/8/2016 بعنوان: “الملكة رانيا: تطوير التعليم اولوية وطنية ومطلب شعبي مستمر”، وقالت في جلسة نقاشية حول الموضوع “إن المجتمع شريك في صنع التغيير”، و”أن الوقت الحالي مناسب للحديث عن ضرورة تطوير منظومة التعليم”، داعية الى “تعميم فكرة المناقشات والحديث بصراحة والاعتراف بالتحديات التي تواجه التعليم” لتعزيز مشاركة المجتمع. ودعت الى “الانفتاح على التجارب الخارجية” والاستفادة من “الممارسات الفضلى عالميا”. في حين أبدى الشباب المشاركون في الجلسة “امتعاضهم” من التوجيهي وقالوا “انه لا يصح اختزال حصيلة 12 عاما من الدراسة في امتحان ضعيف البنية”.
إذن، الرسالة وصلت، والصوت واضح ومسموع، وسط اهتمام بالأمر من أعلى مستوى. والشباب وأهاليهم يطالبون بكل صراحة بــ “إسقاط التوجيهي”، فإن سقط التوجيهي سقط معه التخلف في التعليم. وما هو اكثر تخلفا من امتحان يحكم على اكثر من نصف شبابنا بالفشل وهم في مقتبل العمر. حسام، ممن يعتبره المجتمع “راسب توجيهي”، أُتيحت له فرصة الذهاب الى دولة غربية وعاد، بعد فترة ليست بطويلة، يحمل شهادة طيار تجاري، مجتازا كل اختبارات الطيران العالمية، وهو الان يأمل في العمل لدى شركات الطيران، ليقود طائرات الركاب الكبيرة. خبروني بربكم، هذا “الفاشل في التوجيهي” هل هو حقا فاشل؟ أم أن الفاشل هو التوجيهي!!
على أهل الاختصاص والتربويين والمهتمين أن يستجيبوا للدعوة الملكية في ” تطوير التعليم” ويرفعوا أصواتهم عاليا. ولتكن نقطة البداية الجريئة أن يطالبوا بإلغاء امتحان التوجيهي، لتصبح هذه ربما أولى خطوات الانتقال من حالة الجهل والتخلف والتأخر وضيق الأفق، التي تلازمنا، إلى حالة من المعرفة والتقدم والتطور والتحضر وسعة الأفق، كي تعود بلادنا منارة للعلم، كما كانت عبر تاريخها.
داود عمر داود
daoud@shorouq.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى