تبلّد المشاعر وفرضية العدوى المنظّمة

تبلّد المشاعر وفرضية العدوى المنظّمة
أ. د أحمد العجلوني

من أكثر الأمور المثيرة للحيرة والضيق هذه الحالة التي وصل إليها الكثير من الأردنيين، وتحتاج من المسؤولين والمختصين التوقف عندها. تتمثل هذه الظاهرة بالانخفاض الحاد لمستوى الإحساس والتفاعل الوجداني مع ما تعنيه الجائحة التي تجتاح الأردن الحبيب بلا هوادة ولا رحمة، وبما تخلّفه من إصابات وخسائر إنسانية جسيمة لأخوة وأحبة لنا من أبناء الوطن. فقد بات الأردن (بكل أسى) يتقدم خطوات كبيرة نحو الصفوف الأولى في الدول الموبوءة بالكورونا، بعد أن كان مثالاً للتعامل الحصيف مع هذا الوباء في بدايته (أو هكذا أرادوا لنا أن نعتقد!).
بل إن الأمر وصل إلى مرحلة اختلاط المشاعر على الناس ما بين التحسّر على البلد الحبيب؛ الذي يجرّه أصحاب القرار على أشواك فشلهم وسياساتهم الغامضة المريبة وما بين التشفّي بالمسؤولين الحكوميين الذين يتخبّطون بالإجراءات والتصريحات التي لا تقنع ذا عقل ورشد. فما الذي أوصلنا لهذه المرحلة من التبلّد واللامبالاة؛ وحتى عدم الرغبة في متابعة الأمر عندما باتت الحالات بآلاف عدّة مقارنة بالاهتمام والشغف الذي كان عندما كانت الحالات تعد على أصابع اليد؟
لقد كنت شخصياً من أكثر المقتنعين في بداية الأزمة بفاعلية السلطات الحكومية وإجراءاتها، وأبرر (بعض الهفوات) لأصدقائي في مجالسنا الخاصة بأنها اجتهاد بحسن نيّة وسعياً للأفضل. بل إنني عدت وجلست أمام الشاشات لمتابعة تصريحات المسؤولين بعد أن كدت أنسى أن هناك محطات تلفزيون حكومية! وكنت أكتب لمن كنت أعتقد بأنهم يجدّون فعلاً في السعي لمصلحة البلد العليا وصحة أبنائه وأبدي النصح بتصحيح بعض المسارات وأقترح الخطط والاستراتيجيات في كيفية تعزيز القدرات الوطنية الشاملة (وليس الحكومية فقط) في مواجهة هذا العدو الذي يقتحم حصون صحتنا واقتصادنا وتعليمنا.
ثم ما لبثت الأخطاء والهفوات بالزيادة والتعاظم؛ وتزامنت مع استئثار السلطات الحكومية بكل شيء، والتعنت في قبول المساعدة في الجهود الوطنية من الجهات غير الحكومية، حتى العمل الخيري ما كان ليتم إن لم يجيّر للحكومة! وكأن الناصحين الكثر كانوا ينفخون في قرب مثقوبة! فمن فضيحة التصريحات إلى التجاوزات بإدخال مواطنين عرب وهم مصابون بالداء وبدون أي إجراءات احترازية، وحتى كارثة المعابر التي تركت بلا رقيب، وغيرها الكثير من الأمثلة التي تحولت إلى خطايا وليس مجرد أخطاء وهفوات واجتهادات غير دقيقة، ومع ذلك فلم يحاسب أحد من المقصّرين. وبينما كان الاستعراضيون الحكوميون يتبجحون بالإنجازات، واحتفالات وشهادات التكريم على ” الإنجازات ” لم يجف حبرها بعد كانت المياه تغرق القارب رويداً رويداً، ليأتي آخرون بعد ذلك ويكشفوا سوءات الإدارة الصحيّة السابقة ودون أن يعرف الشعب من المصيب ومن المخطئ.
ولقد زاد من انخفاض مستوى الثقة بالأداء الحكومي عندما بدأت تتكشف مشاريع التنفيع للفنادق و”الملكية” وأصحاب المستشفيات الخاصة من خلال إجراءات وتعقيدات بمبررات “قراقوشية” تلوي عنق الأداء الحكومي وتخنق الأردنيين من مقيمين داخل البلد ومن مغتربين، وباتت الحكومة أشبه ما تكون بوكيل للمتنفّذين وخادماً أميناً لمصالحهم على حساب البلد وأبنائه.
وكانت القاصمة للثقة والقاطعة لكل أمل بجدوى النصح إصرار السلطة على إجراء الانتخابات النيابية في ظل هذه الظروف القاسية، بما تحمله من حالات اختلاط لا تستطيع كل حكومات الدنيا منعها، ورغم كل الأصوات المنادية بتأجيلها لحين انقشاع الغمامة. وبالتالي فقد تحولت مشاعر الناس من شغف واهتمام وحرص إلى مشاعر متبلّدة تتعدى حتى التفاعل مع الكورونا لتصبح حالة خدر وتبلّد مشاعر عامّة تجاه قضايا الوطن والأمة عموماً، بما يشبه من يجلس أمام عزيز عليه يحتضر ولا حول له ولا قوة لمساعدته.

لقد باتت القناعة راسخة لدى الكثيرين ممّن يتابعون تطّور الجائحة وسياسة الحكومة في التعامل معها بأن وراء أكمّة السلطات ما وراءها، وأن حبل الرجاء برشدها قد انقطع، وكأني بالحكومة تعمل (وهي تعي بشكل كامل ومدروس ما تقوم به) على أساس استراتيجية الفوضى الخلاقة (المعروفة في السياسة من أيام كوندوليزا رايس) باتباعها استراتيجية “العدوى المنظّمة” والتي تكتسب شعبية متزايدة في بيئة خصبة للنظريات والفرضيات (التي يمكن لأي منها أن تكون صحيحة بدرجة ما) ومناخ عام من انخفاض درجة الشفافية والتخبط الدائر الآن في التعامل مع الجائحة للتمهيد لإعادة بناء ما! وذلك بالاستفادة من حالة التبلّد السائدة.

حفظ الله الأردن؛ حرّاً آمناً مزدهراً

مقالات ذات صلة

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى