من ذاكرة البدوي / منصور ضيف الله

من ذاكرة البدوي
في الأزرق كانت صرختي الأولى ، ثمة غرفتان طينيتان تقعان أمام المخفر ، غرفتان متهالكتان تفضيان إلى بعضيهما ، يلفهما الصمت ، و يتغلغل فيهما الهدوء ، استقر فيهما مسؤول المخفر على عجل ، ولا أدري تحديدا من أين أتى ، الجفر ؟ المدورة ؟ ربما الأجفايف ؟ هناك قضيت هزيعا من طفولتي ، وانحفرت في ذاكرة البدوي صور الهجن ، وأكياس الشعير ، وأسراب الدوري ، وذاك العسكري القديم بلباسه التقليدي ، تحيط به أجندة الرصاص ، وتعتمر كتفه بارودة طويلة تحدق في الفضاء المفتوح .

حديث الخبرة شيق ، والخبرة هنا ما يعرف بالميرة أو الأرزاق ، يجمعون مبلغا من المال ، ثم تنطلق “الفورد” نحو الزرقاء ، تلفها غيمة من غبار ، وطريق ترابي طويل يفضي إلى طريق آخر ضيق تحيط به حجارة سوداء لا نهاية لها .

في الغرفتين زائر جديد ، كنت أشرب كل تفاصيله ، وأحملها إلى قعر الذاكرة ، طليحة من عرب الرولة ، فجأة ظهرت ، تخرج في الصباح الباكر وتحتطب لها ما تيسر ، تبيع تعبها وتعتاش ، ليس المثير هنا حطبها بل صلاتها التي تأخذ علي كياني ، تمتمات كثيرة متواصلة ، ثم تتبعها ببصقة ناحية اليمين وتنتهي الصلاة . غابت طليحة ، وابتلعها الزمن ، وظلت خصلات شعرها تتطاير من تحت المنديل الأسود حتى اليوم .

يقولون : تغير الأزرق ، غيض ماؤه ، هاجرت طيوره ، وغادرت ناسه ، كل شيء تغير ، إلا نفحات تاريخه ؛ شميم أصيل ، وعبق طيب ، يحتاج من يرصفه في باقات التوثيق والتأريخ .

مقالات ذات صلة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى