قم للمعلم! فدرهمه لا يسبق وخيله لا تلحق

قم للمعلم!
فدرهمه لا يسبق وخيله لا تلحق
أ. د أحمد العجلوني
أكاديمي وخبير اقتصادي

يسمو فضل المعلم فوق ما يطاله تعبير كاتب أو تحتويه سطور قلائل، فهو النور الذي يهتدى به ونبع العطاء الذي لا ينضب، ولا ينكر فضل المعلّم أو ينتقص من قدره إلا جاحد. ويشهد تاريخ الأمم وتشهد الأديان جميعاً بفضل المعلّم وعلو شأنه وشأن رسالته. كما أن جانباً مهماً من نهضة البلدان ورقيّها يقاس بمدى تقديرها للمعلم وحفظ كرامته واحترامه. ويفخر بلدنا الحبيب الأردن بإنسانه المتميز بعلمه وشخصيته الفريدة التي بناها أجيال من كرام الأردنيين من المعلمين والمعلمات.
وعندما تكون القضية للوطن فالتحيّز له هو الموضوعية ذاتها، والمعلّمون في الأردن قضية وطن؛ والتحيّز لهم هو بالضرورة تحيّز للشعب بكل مكوناته وتحيّز للحكومة التي ندعو لها ليل نهار بالرشد والصواب والرؤية بعين الوطن ومصلحته العليا. فالمعلمون هم المبتدأ لكل خير، وأساس البنيان والقدوة في كل مكرمة وأصحاب المبادرة إليها؛ فكل خيرهم للوطن كله، ولأن أي فضل هو–بعد فضل الله- لمن ربّى وسكب ماء روحه في نبت الأجيال، وكل ما ينجزه غيرهم يجيّر في رصيد فضلهم.
يقولُ النَّبيُّ المعلّم صلَّى الله عليه وسلَّم: “سبَق دِرهمٌ مِئةَ ألفِ دِرهمٍ”. وقد أوضح عليه السلام الأمر بجلاء من الزاوية النسبية فدرهم من درهمين (50%) أفضل من مائة ألف درهم من ملايين ومليارات. وما جادت به النفوس الطيبة عن طيب خاطر من حر مال المعلمين في صندوقهم لدعم الجهود الوطنية في مكافحة الكورونا ذو قيمة كبيرة جداً استنادا إلى تلك النسبية، وتؤكد بأن درهم المعلمين يسبق ولا يسبق، ولا يمكن لأحد أن يلحق المعلمين في الفضل مهما كان تخصصه ومهما علا شأنه، وأنهم القدوة في الولاء والانتماء لهذا البلد الطيب.
تتجلى رمزية التبرع الكريم من المعلمين في القيمة والتوقيت فهم الذين تنازلوا بكل حب وطواعية عن “نصف مالهم” ولو دفع بقية الشركاء في الوطن من نقابات وشركات عشر ما لديهم من نقد سائل “كاش” وليس نصف ما يملكون لجمعت مليارات وليس فقط مئات من الملايين. وليس ذلك فحسب، بل إنهم من بادروا وأصرّوا على التبرع وإيصاله بسرعة، ولم يدفعوا بعد هز العصا والتخجيل مثلما دفع غيرهم. كما أنهم لم ينتظروا ثناءً ولا تعبيراً عن الشكر والامتنان كالذي أغدقه رئيس الوزراء وفريقه على غيرهم في مناسبات عديدة. ولم يطلبوا مقابل ذلك مزايا ومكاسب إضافية.
وفي الوقت الذي طالبوا فيه بحقوقهم القانونية قامت الدنيا واعتُبرت هذه جريمتهم! هذا بدل أن يقدّر المعلمون على تبرّعهم واستعدادهم الدائم للمساعدة في الجهود الوطنية لمواجهة الأزمة. وقبل ذلك دورهم في تنشئة الممرض والعسكري والطبيب ورجل الأمن وغيرهم ممن تصدوا لهذه الأزمة؟! أليست هذه القدرات والكوادر من نتاج التعليم والمعلمين؟!
لقد كظم المعلمون جروحهم الكثيرة على مدى عشرات السنين ولم يرفعوا الصوت بالشكوى إلا من مرارة الواقع ووطأة الجور والإهمال الذي أورثه صبرهم. فقد أوغل الفساد في حر مالهم وكان يمتص من قطرات عرقهم وكدّهم في صناديق ومشاريع نهبت لعشرات السنين. واستبيحت حقوقهم المعنوية أيّما استباحة حتى بات تقديرهم في المجتمع بمستوى لا يليق بهم ولا يليق ببلد رأس ماله الإنسان وكرامته. فيما كان غيرهم يتمتعون بالمزايا تلو المزايا دون حسيب أو رقيب. ولولا الله ثم وقوفهم بنياناً مرصوصاً متّحداً لتحصيل الحد الأدنى من حقوقهم ما نظر إليهم ولا سمع أنينهم مسؤول.
وعندما يمارس المعلمون حقوقهم الدستورية ويعلمونا كيف تحصّل الحقوق بكل انضباط ورقيّ في بلد يفترض أنه يحكّم بالقانون تثار في وجوههم عواصف التهديد والتخويف ويعاملون كما المجرمين المخرّبين؟! أليست الهراوات والغازات و”العين الحمراء” أولى بالمجرمين من لصوص المال العام والفاسدين من الساسة، وتجار السموم وأصحاب الأفكار الهدّامة والشواذ الذين يعيثون في البلد جهاراً نهاراً، بدل أن تكون لورثة الأنبياء من المربين الأفاضل؟!
إن ما يحصل بحق المعلمين في زمن حكومة “النهضة” من التعامل بنهج غير قويم وممارسات خاطئة إن هي إلا بثور على وجه الأردن الجميل وإساءة للحكومة نفسها أولاً ولكل أردني قبل أن تسيء للمعلمين. ولأن المسؤولين هم أبناء للوطن فإنهم يبقون إخوتنا ويعز علينا أن تسجل في صفحات تاريخ أي منهم إساءة إلى معلميه ومعلمي أبنائه. فكيف نريد للأجيال أن تعيش الكرامة والحرية ونحن نسيء إلى من يبث هذه الروح في أبنائنا؟! وأي نهضة بلا كرامة للمعلمين وهم سدنة الوطنية والانتماء والولاء للوطن ولقيادته، وهم مدرسة الوسطية الدينية والأخلاق والشهامة، وأقلامهم حراب في نحر الجهل والظلام وأصوات حناجرهم حداء لمسيرة العطاء في الأردن الغالي.
فدرهم وطنيتهم وغيرتهم على المصلحة العامة سبق الجميع
ودرهم الدقة في التنظيم والانضباط سبق نقابات لها عشرات السنين في العمل المهني
ودرهم وحدتهم وعنادهم المحق في الإضراب التاريخي سبق كل ما قام به غيرهم
كما أن درهم ديمقراطيتهم في اختيار ممثليهم بالتنافس الشريف وتداول المسؤولية سبق الكثيرين على الرغم من محاولات الإجهاض المبكر لهذه النقابة العتيدة
إن الحكومة القوية الواثقة من قدرتها على تحقيق المصلحة العامة تسعى بكل جهدها لتقوية المعلمين ونقابتهم، فالنقابة القوية تضمن كرامة المعلم وهيبته وحقوقه المهنية التي كثيراً ما يتم التجاوز عليها من قبل بعض أصحاب رؤوس الأموال من المستثمرين في المدارس الخاصة. كما أن النقابة تضمن مهنية عالية وتميزاً للمعلمين ينعكس على بناء الأجيال، أما أن تناصبهم العداء؛ فسوف تخسر هي وقبلها يخسر الوطن.
لذا، فإنه يعز على كل حر حريص على الأردن الحبيب أن المعلم بات يطالب فقط بالحد الأدنى من الاحترام والحياة الكريمة، والأصل أن حقوقه الأساسية تصله بلا طلب، ومعه حقّه في التبجيل والتقدير الذي يستحقه. وهذا واقع الحال في الدول المتميزة بمستوى التعليم فيها، والتي ندّعي ليل نهار أننا نسعى للوصول إلى مستواها. ألم تر إلى تلك الدول الراقية وحال المعلمين فيها؟! ألم تر وضعهم في ألمانيا وفنلندا والسويد وسنغافورة وغيرها؟!
إن تقدير المعلمين مادياً له مزايا اقتصادية تحسّن من مستواهم المادي واستقرارهم الأسري، فضلاً عن أن هذا التقدير لجهودهم وتحسين مستواهم فيه إنعاش لاقتصاد البلد، وسينعكس تأثيره إيجابياً على الإيرادات العامة لأن قرشهم يبقى في البلد ولا يتسرب إلى الملاذات الضريبية وغيرها! أما التقدير المعنوي بمعاملتهم في الدوائر الحكومية بما يليق بمقام العلم وقيمة المعلم. فلا أقل (مثلاً) من أن يتم تمثيلهم في مجلس الأعيان تمثيلاً رمزياً يعبر عن تقدير الدولة الأردنية للمعلم وقيمته في المجتمع، وأن يساوى أبناؤهم بالمقاعد الجامعية الحكومية مع إخوتهم من العسكريين، ومنحهم قطع أراض من أراضي الخزينة للسكن وللزراعة، وكذلك منح الرتب التعليمية منهم مزايا ضريبية وجمركية للسيارات كما إخوتهم من العسكريين، فكلهم جيش للوطن؛ الأول يبني والثاني يحمي.
على الرغم من خيبات الأمل المتلاحقة للمتفائلين بحكومة الدكتور الرزار فإنه ما زال هناك بصيص أمل بأن تبادر الحكومة بتحقيق نقطة مهمة لصالح الوطن، وأن تستمتع إلى الصادقين الناصحين بأن تبادر بالجلوس مع المعلمين (وحبذا لو تم من خلال زيارة رئيس الوزراء لمقر نقابتهم) واحترام مقامهم وتقدير ظروفهم، حتى نثبت للقريب والبعيد بأن الاختلاف في أي قضية معهم يبقى تحت مظلة الوطن ولمصلحة الوطن، وأنه لا ينتقص من قيمة ورمزية المعلم العالية في بلد العراقة والحضارة منذ الأزل. ولا شك بأنهم خير من يقدّر الظرف لما فيه مصلحة الأردن الحبيب وأبنائه.

حفظ الله الأردن من كل شر؛ وأدام ازدهاره

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. صح لسانك…لكن الي تربى اولاده على ايدي معلمين اجانب وفي مدارس خاصة كيف بدك اياه يقدر ويشعر بالمعلمين القطاع العام ؟!!

  2. أبدعت استاذي. من أجمل ما قرأت
    هكذا يجب أن تكون النظرة للمعلم نظرة تقدير واحترام كما هو الحال في كثير من الدول المتقدمة.

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى