.أبجدية الخوف

[review]لم يتعامل المعلّمون أيام زمان معنا بطيبة على الإطلاق..ولم يتركوا في ذاكرتنا موجة مغناطيسية واحدة تجذبنا نحو الدراسة ، كانوا يفرّغون سخط المدير، وتمرّد الآذن، وقلة الراتب، وصخب الطلاب الزعران، وتذمّر الزوجة على جلودنا.

في اليوم الدراسي الأول / في الصف الأول ابتدائي”أ” وقبل دخول الطابور، تعرّضت لموقف لن أنساه ما حييت ، موقف يشبه ما يواجهه عادة رواد القفز الحرّ عندما تخذلهم المظلة ، قبل الطابور بدقائق ونتيجة الخوف من المدرسة ، وكثرة الطلاّب ، وزعرنة الصفوف العليا، واقتراب موعد الجرس، و”الخماسيات” المتطايرة على مؤخرة رأسي من الأولاد الأكبر سناً..وأمام حمامات المدرسة العائمة لم يفتح معي سحّاب البنطلون..حاولت مرة مرتين دون فائدة، رفعته الى أعلى ثم جذبته الى اسفل دون جدوى..خرج نشيج الضعف من صدري فجأة ،و ارتفع صوت البكاء وغطى الدمع عيني..اقترب مني أحد المدرّسين المناوبين سائلاً بمنتهى الحنان: ”مالنا” هسع برقعك كفّ بلزقك بالسنسلة؟ نظرت الى السنسلة فإذا هي تبعد 30متراً على الأقل؟ سحبت بكائي من فمي ومسحت بيدي عيني وقلت له :بدّي أخوي محمود؟ وضع العصا تحت ابطه ثم لوى أذني دورة كاملة مع اتجاه الساعة وقال: ترويحة ما في، بقصف عمرك! قلت له بصوت متقطع يشبه الرجاء: لعاد بدي اخوي عياده!! اقترب من وجهي، لفّ رأسي الى الوراء ثم رفع حقيبتي عن ظهري الصغير قليلاً ونفّذ ركلة ناجحة على مؤخرتي بمشط القدم.

جلست في إحدى زوايا الساحة مغلوباً على أمري ،مستبدلاً حاجتي الحيوية- التي حرمني منها تعطّل السحاب – بعملية ”النتح” النباتي ونجحت..

في الصف أجلسونا في مقاعد ثلاثية ، كان أستاذنا عصبيا ونزقا جداً..وخرّيجا حديثا من معهد المعلّمين ، وضع الكتب الجديدة أمامه ورائحة المطابع تفوح منها مثل الخبز الطازج ، بدأ ينادي حسب الحروف الهجائية..كان قبلي طالب واحد اسمه”ابراهيم” ، سلّمه الكتب ثم قاله له بصوت خشن: ”خذهن وانقلع”!..نادى على اسمي ، وقفت أمامه وبدني يرتجف ، سلمني مجموعتي ثم قال لي : ”انصرف”! والذي بعدي قال له : ”اقلب”! ، والرابع :” خذهن وانطزع بمحلّك”!.

مقالات ذات صلة

عندما جلست في مقعدي كان كتاب الحساب هو الكتاب العلوي من بين مجموعة الكتب ، فتحته من منتصفه من باب الفضول فشاهدت رسمة فارس عربي يركب حصاناً ويرفع سيفه ، الصورة مرسومة على شكل ارقام من واحد الى مئة ، وعلى الطالب ان يصل بينها جميعاً حتى تكتمل الرسمة..سقط قلبي من الخوف وقتها، فأنا أمّي في كل شيء وبيني وبين القلم عداوة.. لا أعرف أن (أصل الأشياء بخطّ) ولا حتى أن أصل (المواصل) بخطّي.

المهم ،أغلقت الكتاب بخوف عندما ضرب المدرس الدُّرجَ بعصاه، رافعاً بنطاله الى منتصف بطنه ،مهدداً: (بكره اللي ما بيجي مجلّد كتبه ”بمصع” رقبته).

الى اللحظة أخشى (الحساب) وأخشى منتصف الكتاب، وأخشى ذلك الفارس العربي الذي تحد محيط جسده الأرقام ، وذلك المعلّم الذي تحدّ محيط عصاه الآلام. 

احمد حسن الزعبي  

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى