الحريات الفكرية في الإسلام -2 / د . هاشم غرايبة

الحريات الفكرية في الإسلام -2

لا يوجد أي إسناد لمن يدّعي أنه لا توجد حرية فكرية في الإسلام، لإن الدين مبني أصلا على االإيمان، والذي هو مُتأتٍّ نتيجة للتفكر والتأمل، فليس هنالك حجْرٌ على اللجوء الى الشك لبلوغ اليقين، إذن فالتفكير حر ومتاحٌ للجميع بحرية تامة ” لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ “، ولن يتحقق الإيمان ويتمكن في النفس بغير الإقتناع الحر “فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” .
لعل أهم ما يتميز الإسلام به أنه يحث على إعمال الفكر وإخضاع القناعات للتأمل والمحاكمة العقلية ويَنْهَى عن إغلاق العقل بالإكتفاء بما تحصل عليه، بل الإنفتاح على كل مستحدث من أجل التوسع في المعرفة “وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا” .
إن الإيمان في النفس البشرية كائن حي ينمو ويترعرع وقد يضعف ويموت، زاده الفكر وأداته العقل، فكلما ازدادت معرفة المرء وتعمق في معرفة دقائق الأشياء واطلع على الأنظمة الدقيقة المترابطة، استدل أكثر فأكثر على أن كل هذا الضبط الدقيق الذي يحكم مسار كل ما هو موجود، لا يمكن أن يتحقق بغير ضابط حكيم مدبر فيبدأ الإيمان لديه بعلم اليقين ثم يرتقي الى عين اليقين، ويستمر ارتقاء حتى يصل الى حق اليقين، وعندها يصل المرء الى قمة الإيمان فتلك مرتبة العارف، وهي كمن يصل الى قمة الجبل فتنجلي لناظريه كل ما كان مستترا خلف أكمة أو شجره فيغدو كل شيء أمامه مكشوفا ولعقله مفهوما.
لذا كان مقياس صلاح الفرد قوة إيمانه التي لا حدود لها ولا نهايات، ولا يحدد الدين مستويات للبشر مؤهلة لنيل الدرجات العليا، فهي متاحة للجميع على قدم المساواة، وبتكافؤ تام للفُرَص .
يتوهم غير المؤمنين أن دافع المرء للإيمان هو طمع بثواب الخالق أو خوفا من عقابه، وهذا التصور لديهم عائد إلى ما اعتادوه ومارسوه، لأن طبيعة غير المؤمن في العادة نفعية ودوافعه مصلحية.
قد يكون الإيمان في بداياته كذلك، أي خوفا وطمعا، لكنه بعد أن يتمكن في النفس ويتجذر في العقل يحس المرء بحلاوته، وكلما اقترب من الله زاد ذلك، إلا أنّ حكمة الله وعدالته اقتضت أن لا يحس بها غير من ذاقها، ولا سبيل الى وصفها حتى لا ينالها من لا يستحقها، لكن لتقريب الصورة فإن حديث العهد بالإيمان مثل التلميذ عند دخوله المدرسة فهي تشق عليه وترهقه، ولولا ترغيب والديه له وترهيبهما إياه ما بقي فيها، عند دخوله الجامعة يعرف أهمية العلم فيقبل الطالب عليه لا خوفا ولا طاعة لوالديه بل لأنه يريد التعلم حقا، وبعد نيله الكتوراه يزول دافع الترغيب والترهيب، فلا يغدو دافعه إلا التقرب من المعرفة العليا.
قد يسألك بعضهم: إن كان الإسلام يحترم حق المرء في الحرية الفكرية هل يجيز له أن يعترض على بعض المسلمات أو حتى الإلحاد؟
إن كل من يؤمن بمعتقد وتترسخ قناعاته به يعني أنه اختاره بمحض إرادته، الإيمان عقيدة متكاملة لا تتجزأ، وهي ليست مهنة أو وظيفة تبدل حسب الظروف، عنما كانت الدعوة في بدايتها منع التجوال الديني أي التنقل من عقيدة الى أخرى، لأن ذلك كان خطة مبيتة من المنافقين أن يقبلوا على الدين أفراداً ثم يرتدوا عنه جماعيا لكي يبلبلوا الصفوف” وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”.
لكن بعد أن استتب الأمر وقويت شوكة المؤمنين، فلا يضيرهم كُفْرُ من كَفَر، لأن المؤمن حقاً لا يرتد عن دينه إطلاقا، فهل يقبل المتعلم العودة الى الأمية ؟.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى