انفصام شعبي

#انفصام_شعبي

مصعب البدور
الحقيقة في حياتنا هي الظّاهِر المتروك ، والمعلوم المُتَجاهَل، والتّأويل المهجور. ربما لأن الحقيقة ترفض الخيال والأحلام ولأنها تعرّي كل شيء، ولربما لأنها لا تؤمن بتخدير الضمير، والحقيقة مرئيّة منكرة، أدلتها قائمة وحجتها دامغة، لكن القلب لا يهواها، والعين لا تحب رؤيتها، وفي حياتنا اليوميّة والسياسية والاقتصاديّة يتجاهل الجميع الحقيقة تجاهلا سافرا ويرفضونها رفضًا قاسيًا. ومن مظاهر هذا الرفض استصعاب شعوبنا العربية الاعتراف بأساس المشكلات والأزمات الّتي يمرّ بها الوطن العربيّ، أو على الأقل يستصعبون الاعتراف بمدى قيامهم بواجباتهم تجاه وطننا الكبير، فلربما ما يجرى الآن في السّاحة العربيّة مخطط استهدافيّ خارجيّ، لكن يبقى السؤال هنا صارخا ما الذي يجب أن يقوم به المواطن العربيّ؟ أو ما الذي يبنبغي أن تقوم به الامتدادات الرّسميّة والشّعبيّة لمكافحة هذه الأوضاع؟
مازال مستصعبا علينا أن نفكر بالحقيقة، فكلنا يعرف الحقيقة ويتجاهلها، ومن أهم هذه الحقائق المتجاهلة الوطن، إن أول ما يجب أن يعرفه العاملين على الإصلاح أو التغيير المكانة الحقيقية للوطن، وتشخيص حالته بشفافيّة، ومعرفة على أي أرض يقف المواطن، وأين مقامه ومكانه من معالة الوطن؟ وأفضل سبيل لتحقيق هذه الخطوة هي المصارحة على صعدها كافّة ذاتيّة أو شعبيّة أو رسميّة أو دوليّة .
مواجهات قاسية عاطفيًّا :
الاستقامة هي أقصر الطرق هكذا تقول الرّياضيّات، فالذهاب إلى أي نقطة سياسيّة أو اقتصاديّة أو اجتماعيّة تحتاج إلى استقامة في الطرح واستقامة في المسلك ومواجهات صادقة، لذلك يجب أن يُصارح مواطننا بأشياء عديدة، وعليه أن يتقبل الحقيقة، وأن يعمل على تجاوز جانبها السلبي. فلا يكفي أن أشارك أبناء شعبي العاطفة فأبكي لما يبكيهم وأفرح لفرحهم، إنما لا بدّ من شجاعة في مواجهة كلّ مظهر يُسْهم في تأخر حالة الانفصام المرضي وازدواجية الحالة الّتي نعيشها شعبًا وحكومة.
وفي هذا الجانب لدينا جمهرة من المصارحات لنقولها؛ فاسمحوا لي أن أقول لكم فردا فردا، أنت الذي جريت بين مكاتب التوظيف تبحث عن فرصة عمل خارج الوطن، ودفعت من جيبك أكثر مما تملك لتحقق هذه الأمنية، وأنت الذي كنت ساخطًا تشكو كلّ شيء في الوطن وتهجوه، وأنت الذي تعثرت في حفر طريقه، والذي جعت فيه، والذي كان الوطن قفصًا يسجنك، ويحدك ويحد طاقاتك، وأنت الذي انتظرت صوت المنادي يصدح في جنبات المكان “النداء النهائي والأخير للصعود إلى الطائرة المتّجهة بعيدا” باحثا عن رمق الحياة.
ألست أنت الّذي اغتربت؛ فقضيت الغربة تلعنها، وتهيم غراما في ذكريات الوطن؟ ألست أنت الذي قضيت غربتك تؤجل كلّ شيء حتى تعود إلى الوطن؟ فلم تعد ولم تنجز شيئا، واسمح لي أن أقول لك أنت الذي كنت مثال العمل الجاد والمبدع في غربته، ومثال النشاط والعطاء، وأنت ذاتك المترهل في بلده، المتثاقل الكسول الذي لا يكاد ينجز معاملة في اليوم، ألست أنت أكثر المنضبطين بقوانين السير والسلامة في الطريق في غربتك؟ وأنت ذاتك الذي ينتهك كل قوانين الطريق في الوطن، واسمح لي أن أقول لك أنت الذي ملأت حكمته مواقع التواصل الاجتماعي كلها، ووصلت منشوراتك الحكيمة كل الأقطار، وأنت ذاتك الذي أججت نار الأزمات بين الناس.
ألست أنت المنادي كلّ يوم من أجل الوطن وإصلاحه ورفعته؟ وعند التطبيق أنت أول من يصف الإصلاحيين بالمخربين، ألست من زرعت الخوف في نفوس أبنائك من السياسيين والأمنيين؟
أرجو ألّا تغضبوا فكلّ ماذكرت يعبر عن حالة انفصام منتشرة بيننا تتجلّى في أي ركن من أركان المجتمع .
مواسم حسّاسة
للانفصام في الشّخصيّة الشّعبيّة مواسم يتهيّج بها، ومن أهم هذه المواسم الانتخابات، وحمى الانتخابات المستشرية في جسد الوطن تكشف انفصامًا كبيرًا وتجلّي صور ازدواجية المعايير الّتي يعيشها المواطن العربيّ، فلا يوجد مبرر لدى غالبيّة المتحمّسين للانتخابات لقبول مرشّح ولا يوجد مسوغ لرفض آخر، إنما الأسباب الّتي يُرفض بها المرشّح س هي ذاتها الّتي يُقبل بها المرشّح ص، والانتخابات موسم لا تكاد ناره تنطفئ في محفل حتى تشتغل في آخر، ومازال أبناء شعبنا الأغر في الأردن يثورون حميّة لنصرة اسم مجرب شهد على فشله الزمن والبنية التحتية والتصويت على كل القوانين المؤقتة، وشهد على حالنا معه حفر شوارعنا، ونظافة مدننا. ومن الحقائق الّتي يجب أن نصارح مجتمعنا بها أنّ المنتقدين أمس هم المؤيدون اليوم والمرشّح هو المرشّح والفائز في الأمس هو الفائز غدا.
ومن الأعراض المؤسفة لهذا الانفصام الجماعي في مجتمعنا، أنّنا نشتم المجالس النيابية والبلدية، ونُكثر اتهامها، ونذكر أعضاء هذه المجالس بكلّ سوء، وعند أول محفل انتخابي جديد نتسابق إلى التّرويج لنفس الأعضاء، ونحن الصارخون في الليالي بأعلى أصواتنا أنّ العاقل يعتزل مهزلة الانتخاب، ثم في الصباح نحن أكثر المتفاخرين بافتتاح صناديق الاقتراع مكرّرين الاسم الذي اخترناه في الدورات السابقة وشتمناه عبر السنوات.
انفصام تكميلي
لا تكتمل الدّول إلا بوجود مثلث الأرض والشّعب والحكومة، ولتكتمل حالة الانفصام لا بدّ من وصف جانب من الحالة المرضيّة الموجودة في الجهات الحكوميّة، وهي كثيرة لا تكاد تنحصر، فلو راجعنا شريط حياة الوطن لوجدناه حافلا بالأسماء والشّخصيّات والمناصب والمسمّيات، ولرأينا شخصيّات تتحرى اللّحظة لتتحدث عن الأخطاء في مسيرة الحكومات وتطالب بتصويبها، ثمّ عندما تصبحت من أصحاب السّلطة والمسؤوليّة تتحوّلت إلى تبرير الأخطاء والدفاع عنها، ولا ننسى الذين رفعوا شعارهم الانتخابي”لقمة الشعب خطّ أحمر” فلمّا صاروا أعضاء اللّجنة المالية في البرلمان تحول شعارهم ” لازم ندبر….لو بنفرغ جيب المواطن أو بنشلحه ” ولنتذكّر المسؤول المنادي بشعارات “الحرية وحرية التعبير” والمتمسك بشعار “إنّ أمن المواطن هو أساس الحياة في وطننا” وهو من أعطى الأوامر لرجال الأمن بقمع القامات وتكميم الأفواه وقطع الأصوات.
إنّ ما يدعو إلى الانتكاس حقًا وجود كميّة مِن التّناقضات الحياتية، أو وجود انفصام الشّخصية هذا بشكل شعبيّ، وأن تجد من يعتقد أن الوطن “كاش” كلّ يأخذ ما طالت يده، وأن تجد حالة رفض شعبية للإصلاح، وأن تجد رعاية رسمية للجهل والفساد، وأن تجد من يستهدف قوت الفقراء.
إنّ إصلاح الوطن يبدأ من كل درجات الهرم في آن واحد، قيادة أمينة لديها خطط واضحة ورؤية حكيمة، حكومة نزيهة عاملة، تجرّم كلّ أشكال الفساد، ومواطن غاضب للحق عامل بنزاهة، إننا نحتاج من يسعى لصناعة صلاح الوطن ومجده، ونحتاج مسؤولًا عينه على طريق الوطن ورفعته لا على خزينته وأمواله، وموظّف يعمل بأفضل مستوى يمكن تقديمه، لنجسد أن الوطن فكرة جماعيّة، ومسؤولية مجتمعية وحكومية، ونريد أن نصهر كل الأفكار في وعاء فكرّي واحد هو الوطن، أما أن يبقى الوطن خزنة دون باب ومكانًا يُستباح فيه كلّ محرّم، فهذا العائق الأكبر أمام تطور الوطن وإصلاحه واستقامة حاله.
مصعب البدور

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى