#نور_على_نور

#نور_على_نور

د. هاشم غرايبه
لكل سورة من سور القرآن هدف رئيس، وجملة من المحاور الفرعية، وسورة الإسراء تحتاج من المتأمل وقفات طويلة وعديدة، وقد قدمت في مقالة سابقة تحليلا للهدف الرئيس من خلال تبيان دلالات مفردات الآية الأولى، وأكمل في تبيان قضيتين من أهم محاور هذه السورة، سيما وأن شيوخ التفسير الأوائل لم يتوقفوا عندهما كثيرا: الأولى مجيء ذكر بني إسرائيل تاليا لقصة الإسراء، والثانية اخبار المسلمين بما قضاه الله على بني إسرائيل وأبلغهم إياه بخصوص الإفسادين وعاقبتهما، وسأفصل تاليا في الموضوع:
القضية الأولى والمتعلقة بإيراد أحوال بني إسرائيل تاليا لإخباره تعالى بمعجزة الإسراء الفريدة التي أكرم بها نبيه الكريم، فما العلاقة بين الأمرين؟
لا شك أنه لم يخطر ببال المفسرين من السلف الصالح أن الإفساد الثاني سيحدث مستقبلا، حيث أن أهل القدس والشام عموما عرب، وإن كانت قبل تحريرها من قِبَلِ المسلمين، في يد الرومان، وسكانها كان أغلبهم يدينون بالنصرانية قبل أن يدخلوا الإسلام، واليهود كانوا بينهم أقليات بلا أثر سياسي، فلم يدر بخلدهم أن اليهود المستضعفين في الأرض سوف ينتزعوا القدس من المسلمين، لذلك اعتقدوا أن تأويل هذه الآية إخبار عن الماضي وليس المستقبل ففسروا (وعد الآخرة) بأنه حدث لما قتلوا يحيى عليه السلام (تفسيري الطبري والقرطبي).
بناء على ذلك اعتقدوا أن (اسْكُنُواْ الأَرْضَ) الواردة في قوله تعالى في أواخر السورة: “وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا”، اعتقدوا أن الأرض تعني بلاد الشام، لكن الأصح أنها تعني التشتت في الأرض، لأن الأرض عندما ترد مُعرّفة بأل التعريف فإنها تعني المعمورة، ولا يمكن أن تعني منطقة لها إسم مخصوص.
كما قالوا ان وعد الآخرة مقصود به يوم القيامة، لكن ما ينقض ذلك، أن القيامة ليست لبني إسرائيل فقط، بل للعالمين جميعا، إضافة الى أنه تعالى ذكر (وعد الآخرة) في الآية السابعة بالصيغة نفسها: “فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ”، وبالطبع لا يمكن أن يكون ذلك يوم القيامة، بل الوعد بالإهلاك الثاني والأخير، لأنه لا يمكن أن يطلق تعالى المسمى نفسه وفي السورة نفسها على أمرين جد مختلفين.
من هنا نفهم لماذا كان الإسراء الى القدس، والعروج الى السماء منها، وليس من مكة مباشرة، فقد جاء ليؤكد ارتباط المسلمين بالمسجد الأقصى تماما مثل ارتباطهم بالمسجد الحرام، وحتمية أن الصراع بينهم وبين الأوروبيين (وهم الامتداد التاريخي لأهل الكتاب)، سيكون محوره الأقصى والأرض التي حوله.
القضية الثانية: هي أنه تعالى وقبل أن يبين ما قضاه بحق بني إسرائيل، أورد المبدأ الذي يحاسب بموجبه المؤمنين الذين هداهم بالرسالات، في الحياة الدنيا، وقبل يوم الحساب، وهو: “إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا”.
فقد أورد الله تعالى خمسة عشر توجيها موجهة للمسلمين، لتعريفهم بمواصفات الإحسان، الذي سيحقق لهم النصر في الصراع، جميعها سلوكية، وقبل الإعداد العسكري، بدأت في الآية 22 بأساس العقيدة: التوحيد (لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً)، ثم (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)، (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا…)، (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ…)، ( وَآتِ ذَا الْقُرْبَى…)، (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً…)، (وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ …)، (وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى…)، (وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ…)، (وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ…)، (وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ…)، (وَأَوْفُوا الْكَيْلَ…)، (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ…)، ، (وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا…)، وختمها في الآية 39 بتكرار ما بدأها به: (وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا).
وبما أن عقاب الله يشمل الأمة بكاملها وليس العصاة فقط، نستنتج أن الالتزام بهذه التوجيهات يجب أن يكون مجتمعيا، وليس مجرد صلاح فردي، أي يفرضها النظام السياسي بتشريعات، فذلك هو المعيار الذي يحكم به الله على الأمم أنها غيرُ مُفسدة في الأرض بل مُصلحة.
ولعل غياب ذلك المتطلب فيه تفسيرٌ لما هي فيه حاليا من ذل وانكسار، وما نالها من هزائم وتشريد وتهجير.
وليشكل للمصلحين إشارة تحذيرية ليصدعوا بأمر الله، بالدعوة لإقامة منهج الله، قبل أن يقع عليهم ما قضاه تعالى على بني اسرائيل.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى