
شواهد الزور
وليد معابرة
لا شكَّ أن لشهادة الزور وجوهاً كثيرة، أعظمها أن يقوم أحد الناس بإدلاء شهادته الباطلة (بشكل مقصودٍ) مستخدماً طرق التظليل والمراوغة؛ فيجني بها على نفسه وعلى المشهود عليه، أو أن يُدلي بشهادته الباطلة (بممارسة الجهل) وعدم التحقق من فحوى تلك الشهادة، مما يسهم في إلحاق الضرر وإفساد أبناء المجمتع برمته، كما يحدث في (مواقع التفاصل الاجتماعي) التي أضحت بيئة ضررها أكثر من نفعها، وباتت كألواح الزجاج الشفافة؛ تكشف لنا الرؤية وتفصلنا عنها في الوقت ذاته، فتجد بعض الشخوص يشاركون المنشورات غير المحققة بثقةٍ مفرطة؛ بهدفٍ إبراز (الشخص الإعلامي الصغير) الذي يحتضنه كلُّ شخصٍ منّا بداخله؛ فيعمم ثقافات مغلوطة تُغرَسُ في قلوب من يجهل أبعادها؛ بشكل سلس وغير مقصود.
إنَّ المتعمقين في مجال المقارنة بين شهادة الزور المقصودة وشهادة الزور الناتجة عن ممارسة الجهل؛ سيجدون أنهم أمام أشخاص لا يعلمون أن للتاريخ قيمة وأن للمستقبل دوراً هاماً في بناء المجتمعات، فتجد الداعية الإسلامي يتغافل عن مفاهيم عدّة ظانّاً أنَّ بالعلم وحده من غير العمل؛ سَيَنجَى الإنسان من عذاب الله وسخطه، فَجَزَمَ أنَّه أعلمُ الناس بالحق ونسي أن إبليس الرجيم لم يتخذ من علمه سبيلاً لنجاته في حين أنّه أكثر المخلوقات عِلماً في قضايا الحلال والحرام…، وإن القاضي الذي يحكم في قضية تَدَخَّلَ بها أحد المسؤولين الكبار بتفعيل دور الوساطة الاجتماعيّة متناسياً قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “قاضيان في الجنّة وقاضٍ في النار”؛ فقد ظلم نفسه وأولجها ضمن المقاييس التصنيفية لشواهد الزور…، كذلك هم السائرون على منهج جلد الآخرين وتصنيف البشر ضمن سلسلات منها: تكفيرية، أو تنويرية، أو تظليلية؛ فإنهم غفلوا عن مفاهيم كثيرة وتشبهوا بتلك الفتاة التي تستعين بأقنعة الجمال لصيد رفيق دربها وتعتيم الحقيقة أمامه؛ فصارت شاهدة قديرة بامتياز وانضمّت –من غير أن تدري- إلى قائمة شواهد الزور.
لكيلا نغفل عن شريحة من شرائح المجتمع؛ فلا بدَّ لنا جميعاً من الاعتراف أن هناك شرائح كثيرة تنماز بثقافة راقية وتربويّة ناجحة مليئة بالقيم الاجتماعية والدينية الخالدة؛ ولكي نكون منصفين بشكل أكبر؛ يجب علينا أن نَنقُدَ وننتقد الشرائح الأخرى بعين المُحِب وليس بعين الساخِط الشامِت، لذلك؛ فإنّه يتحتّم علينا أن نسهم في إيصال الرسائل إلى أصحابها واستذكار الطرائق الكثيرة في تلبيس الناس أنفسهم وإسقاطها ضمن قائمة شواهد الزور الأزلية…
فالذين يتناقلون الأخبار الكاذبة في (مواقع التفاصل الاجتماعي) بقصد إثارة الفتنة الطائفية أو الفتنة القومية؛ فهم بالتاكيد من فئة المندسين الذي يُقرّونَ في أنفسهم بأنهم من شواهد الزور…، والذي يعتقد أن القط عندما يسرق قطعة من اللحم فيأكلها خلف المنزل لا يعرف الصواب من الخطأ؛ فأنه تبوَّأ مكانه بين شواهد الزور…، ومن يظن أن الذئب قد تكفَّلَ في غنمه فيأمن عليها؛ فإنه بذلك أدلى بشهادة ضد نفسه وضم نفسه ليكون شاهداً من شواهد الزور…، وأن رجل الدين الذي توقع أن العلم والعبادة دون الإخلاص والإحسان ينجيان صاحبهما من النار؛ فقد أصرَّ على أن يكون شاهداً من شواهد الزور…، والذي اعتاد على ممارسة التنظير ونشر المُثُلِ والمبادئ الكريمة ونسي أنه قد تعنَّتَ في سداد الدين المالي للبقالة المجاورة لبيته؛ فهو جزء لا يتجزأ من شواهد الزور…، والذي يضع الإعجاب على منشور في (مواقع التفاصل الاجتماعي) مجاملة دون إلقاء البال إلى أيديولوجية ذلك المنشور؛ فإنه حتماً سيكون شاهداً من شواهد الزور…، والذي ينقل معلومة علمية أو ثقافية أو دينية من غير التحقق من مصادرها؛ فهو أول التابعين لشواهد الزور…، ومن يتهم نفسيه بالثقافة ويروّجُ لفكرٍ لم يعرف عنه إلا من خلال محاضرة واحدة؛ فهو شاهد عريق من شواهد الزور…، وإن المسؤول الذي يقدم مصالِحه على مصلحة الآخرين، والموظف الذي يتلاعب في فواتير المؤسسة التي يعمل فيها، وحارس الحدود الذي يتقاضى الرشاوى مقابل إدخال البضائع السامة إلى بلده؛ فلا شك بأنهم جميعا ينتمون إلى منظومة الفساد التي أسسها شواهد الزور…، وإن المعلِّم التربوي الذي يَجحدُ المعلومات عن تلاميذه ليؤديها لهم ضمن دروس خصوصية؛ لهو أول الغارقين في الوحل الذي صنعه شواهد الزور…، وإن الكاتب أو الشاعر الذي يبيع قلمه من أجل لقمة العيش ونشر الكذب والتعاطي في الإعلام الهادم؛ لهو أشدُّ الناسِ عداوة للذين آمنوا وأكثر حماقة وسذاجة من شواهد الزور…، وإن المصلِّي الذي يظنُّ أنَّه فازَ بحب الله، وتناسى إطلاق لسانه على هذا وذاك، ونسي أن كبير المنافقين “ابن سلول” كان يصلي كل الصلوات خلف رسول الله ويشعِلُ الفتنة بين صفوف المسلمين؛ فقد حصر نفسه في بوتقة الخسران المبين وألصق نفسه بصفة العراقة التي ينماز بها شواهد الزور…، وإن الصيدلاني الذي يحتكر نوعاً من الدواء ليزود به أقرباءه، وإن الإنسان الذي يُوقِّع على عقد زواج ويدلي بشهادته بالبلوغ والعقل والرشد وهو يعلم أن تاريخ أحد العروسين حافلٌ بالانحراف، فضلاً عن الإنسان الذي يرفض الأفكار الجديدة وينعتها بالتخلف والرجعية فينتقدها ثم يطبقها لاحقاً؛ فهم جميعاً يمثلون شريحة كبيرة ساهمت في مأسسة النظام السائد لشريعة شواهد الزور.
خلاصة القول: إن الدوافع المؤدية إلى ارتكاب تَينِكَ الجريمتين (التزوير، والتحسين)؛ ما هي إلا نتاج وازع ديني إنساني ضعيف بُنِيَ -في جُلِّ الأحيان- على منهج تفكير اجتماعي رديء؛ تبدأه الحَمِيَّة والفزعة، ويتوسطه الجهل، وتغذقه النرجسية وحب الذات الناتج عن “الأنانية الضمنية” التي يعشها البشر، وهذا ما دفع بعض الذين يتهمون أنفهسم بالعلم والثقافة إلى استلهام بعض القيم الخاطئة من بعض الكتب التي لم يقرأوا منها حرفاً واحداً؛ فباتوا يعتمدون على النقل فقط دون العقل، ويشهدون بصدقها المطلق، فاسشرى مرض التكريه المجتمعي بين معظم الفئات المجتمعية، وباتت الأمة تنقاد خلف مُستَعلِمِيها الذين ساهموا في صناعة المنظومة العقائدية لشواهد الزور.