في ظلال #طوفان_الأقصى “64”
#المستوطنون يخافون من #العودة و #الفلسطينيون يُقْتلون في سبيل العودة
بقلم د. مصطفى يوسف #اللداوي
يحاول المسؤولون الإسرائيليون عبثاً، على كل المستويات السياسية والعسكرية والأمنية، إقناع عشرات آلاف المستوطنين، الذين هربوا من بيوتهم ومنازلهم في المستوطنات والمغتصبات الصهيونية في الشمال والجنوب، العودة إليها والإقامة فيها، لكن محاولاتهم المحمومة ذهبت هباءً وباءت بالفشل، ولم تنجح في تهدئة روعهم وتطمين نفوسهم وتبديد خوفهم، ولم يعد إليها أحدٌ رغم الجهود النفسية التي تبذل، والدعاية اليومية التي تنظم، والحملات الأمنية المبرمجة التي تحاول الإيحاء للمستوطنين بتفوق الجيش، واستتباب الأمن، وزوال الخطر، وابتعاد قوى المقاومة عن الحدود، وتراجع مستويات القصف، وانخفاض مستوى العنف.
إلا أن المستوطنين الذين أثقلوا كاهل الحكومة بخوفهم وجبنهم، وكبدوها أموالاً طائلةً للإيواء والإقامة والإغاثة، والتعويض وتوفير مدارس وجامعات بديلة، ونقل التلاميذ والطلاب والحفاظ على دراستهم، وتأمين متطلبات العيش لهم وسبل الحياة، وربطهم معنوياً ومادياً بالمستوطنات، لا يصدقون حكومتهم، ولا يطمئنون إلى سياسة رئيسها وأعضائها، ولا يأمنون إلى الجيش ولا يركنون عليه، ولا يشعرون بأنه ما زال قادراً على حمايتهم وتأمين مصالحهم، ورد الأخطار عنهم، وضمان مستقبلهم واستقرار حياتهم.
لم تتوقف الزيارات التي يقوم بها إلى المستوطنات الشمالية والجنوبية رئيس حكومة العدو ووزراؤه، ووزير حربه وقائد جيشه، وقادة المناطق العسكرية الشمالية والجنوبية وغيرهم، إلا أن هذه الزيارات التي تتم بصمتٍ، وفي ظل إجراءاتٍ أمنيةٍ مشددة جداً، وحراساتٍ قويةٍ وتعتيمٍ إعلامي، والتي تعرض بعضها للقصف مما دفع الزوار للهروب والفرار، تسببت في نتائج سلبية جداً، انعكست على مزاج المستوطنين وعززت رفضهم القاطع العودة إلى بيوتهم والمستوطنات، لشكهم في حكومتهم، وعدم طمـأنينتهم إلى جاهزية جيشهم، ولقناعتهم المؤكدة بجدية المقاومة وتفوقها، وبعزمها وإرادتها، وأنها ماضية بقوة في تنفيذ وعودها، وعازمة بجدٍ على عدم السماح لأي مستوطنٍ بالعودة، وأن تبقى المستوطنات جميعها وما بعدها في دائرة القصف المستمر والنار المتصاعدة وفق تطورات الميدان.
رغم كل الإغراءات والعطاءات والضمانات الحكومية الرسمية، والأهلية المدنية التي تقدمها مجالس المستوطنات، فإن المستوطنين يرفضون العودة، ويصرون على البقاء بعيداً عن نقاط التماس ومناطق التوتر، وكثيرٌ منهم بدأ يفكر في عدم العودة نهائياً، وأخذوا يفكرون في بيع بيوتهم وإخراج ممتلكاتهم واستنقاذ مقتنياتهم، الأمر الذي تسبب في هبوط الأسعار وتدهور الأسواق العقارية في المستوطنات، حيث يشكو الاقتصاديون وأرباب العمل الإسرائيليون من حالة ركودٍ شديدةٍ تشهدها المستوطنات، وهذا الأمر لا ينعكس سلباً على المستوطنين الحاليين، بل إن حالة النفور المتزايدة والخوف المستمر قد امتدت إلى عامة الإسرائيليين، وطالت المهاجرين الجدد الذين يبحثون عن أي مأوى أو مسكن.
أما الصورة الأخرى المقابلة فهي مختلفة كلياً عن صورة المستوطنين الخائفين الهلعين الهاربين المذعورين، حيث يبدو المواطنون الفلسطينيون رغم القصف المستمر والدمار الواسع والقتل المستشري الكبير، في حالةٍ معنويةٍ أعلى، ويتطلعون إلى العودة إلى مناطقهم المدمرة، وبيوتهم المقصوفة، حيث لا أمن ولا أمان، ولا بنى تحتية ولا خدمات مدنية، ولا كهرباء ولا مياه للخدمة ولا نقية للشرب، ومع ذلك يصر الفلسطينيون على العودة إلى بيوتهم، ويرفضون الخروج من قطاعهم، أو اللجوء إلى الجوار القريب أو الهجرة إلى الشتات البعيد، ويعلنون كل يومٍ عزمهم على العودة إلى مناطقهم، ويتحدون الأخطار المحدقة بهم، والعدو الذي يتربص بهم.
يعلم العدو الإسرائيلي يقيناً أن عزم الفلسطينيين في قطاع غزة من حديد، وأن إرادتهم من فولاذ، وأنهم يصرون على العودة ويتحدون كل إجراءات جيشه الأمنية والعسكرية، ويخاطرون بحياتهم ويعرضون أنفسهم لاحتمالات القتل العالية، وعلى الرغم من علمهم بأن جيش الاحتلال يقطع الطريق المؤدية إلى الشمال في شارعي الرشيد وصلاح الدين، وأنه يقصف القوافل والسيارات، وأن جنوده يطلقون النار على المارة والمشاة، ويقنصون كل من يحاول العبور إلى الشمال، وقد استشهد العشرات منهم خلال محاولاتهم المستميتة للعودة، إلا أنهم يصرون ويحاولون، ويكررون تجاربهم لا ييأسون، ويواصلون السعي ولا يخافون أو يجبنون، ولو أنهم يعلمون يقيناً أن بعضهم سيقتل، وأن الكثير منهم سيفشل، لكنها إرادة البقاء عندهم أقوى، وهدف العودة لديهم أسمى.
قد لا يجد الفلسطينيون أحداً يقف معهم ويساعدهم، ويُقَويهم ويساندهم، وليس بين أيديهم مالاً ولا عندهم متاعاً، ولا ثياباً أو فراشاً، وهم يعلمون أنهم لن يجدوا إذا ما نجحوا في الوصول إلى مناطقهم بيوتاً تؤيهم، ولا جدراناً تحميهم، ولا طعاماً يَقْويهم، وقد تفتح عودتهم إلى مناطقهم جراحهم، ويستذكرون أحبابهم، ويفتقدون شهداءهم، وقد ينبشون الركام بحثاً عن أبنائهم تحته، مما قد يزيد من آلامهم، ويقرح عيونهم، ويدمي قلوبهم، ورغم ذلك فإن العودة بالنسبة لهم هي الحياة، وإعادة إعمار ما دمره العدون هو المستقبل، وثباتهم في أرضهم وبقاؤهم في مناطقهم هو النصر بعينه والظفر كله.
بيروت في 9/5/2024