آتيا الكلمة التي ألقاها الفريق الركن المتقاعد #موسى_العدوان في احتفال الذكرى الثالثة والخمسينن، لاستشهاد #وصفي_التل، يوم أمس الخميس 28 / 11 / 2024 ، في دارة الشهيد :
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
في هيبة ومهابة هذا المكان التاريخيّ . . والذي يحتضن #ضريح_شهيد-الوطن والأمة . . أحييكم بالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،
في مثل هذا اليوم من كل عام، يحتفل الشرفاء من أبناء الوطن، بإحياء ذكرى الرمز الوطني وصفي التل عليه رحمة الله ورضوانه. وإن كان قد غاب عنا بجسده، قبل ما يزيد عن نصف قرن، إلاّ أن ذكراه وسيرته العطرة، لا تزال تعيش في عقولنا وأفئدتنا، تستنهض الهمم، وتقوي العزائم، وتؤكد على #حماية-الوطن من شر الطامعين.
وعندما نحيي ذكرى هذا الرجل العظيم، فإننا لا نستحضر تاريخا ماضيا للتسلية وملء الفراغ، بل عرفان بالجميل، وتشجيع للأجيال اللاحقة، على الاقتداء به، في خدمة الوطن وأبنائه بأمانة وشرف. وفي حديثي اليوم بهذه المناسبة، سأحاول الإجابة على سؤال يتردد على السنة الكثيرين وهو:
” لماذا تحبون وصفي التل ؟ “. وللإجابة على ذلك السؤال أجد من واجبي أن أبين للسائلين، بعض مآثره علّهم يفقهون.
فوصفي كان صاحب مشروع قومي، يحمل هدفين رئيسيين. أولّهما . . بناء المجتمع الأردني على أسس وقواعد سليمة. والثاني . . تحرير الأرض الفلسطينية المغتصبة. ففي المجال الأول قال وصفي : ” لابد من تحرير المجتمع من أمراضه ومشكلاته قبل محاولة بنائه، حتى إذا ما عُرف المرض، أمكن علاج الداء “. وبيّن دولته بأن تلك الأمراض، ناتجة عن صفات بعض المسؤولين، التي أهمها : الاعتذارية، القططية، النعامية، والتمنن . . !
شكّل وصفي خلال حياته خمس حكومات على فترات متفاوتة، وانجز خلالها مآثر كثيرة لا يتسع المجال لذكرها. فقد كان اهتمامه مركزا على : الأرض والزراعة، الاقتصاد، التعليم، تنظيم إدارة الدولة، تأسيس الشركات والمؤسسات الوطنية، مكافحة الفساد، التواصل مع المواطنين، تحرير الأرض المغتصبة. وكانت بصماته ظاهرة في مختلف مناحي الدولة.
وفي مجال التعليم . . فقد حرص وصفي على بناء جيل متعلم لينهض بالوطن. وتأكيدا لذلك أرغب أن أذكر القصة التالية : في عام 1971 طلب الدكتور اسحق الفرحان وزير التربية والتعليم آنذاك من وصفي، ترخيص مدرستين خاصتين. فرفض وصفي الموافقة على الطلب قائلا:
” والله إن تفشت هذه الظاهرة في البلاد، ستجدون أنفسكم بعد عقود، أمام أجيال لا تستطيعون التحدث معها “.
صدق وصفي التل في استشرافه للمستقبل . . فها نحن نلمس ونشاهد اليوم، تردي مستوى التعليم لدى الطلاب، ليس في المدارس الخاصة فحسب، وإنّما لدى طلاب المدارس الحكومية أيضا، نتيجة لضعف المعلمين، والتلاعب بالمناهج الدراسية.
كان وصفي التل زعيما وطنيا جمع بين السياسة والعسكرية، فعشق الأردن بشعبه وأرضه وشجره، وحرث الأرض بنفسه، وطلب من الفلاحين زراعة القمح، تلك السلعة الاستراتيجية الهامة، فأصبح الأردن مصدّرا لها في ذلك الحين. ثم أشرك القوات المسلحة في شق الطرق وحفر الآبار الارتوازية، ووضع برنامجا لزراعة الجبال الجرداء، وجوانب الطرق بالأشجار الحرجية، التي قام بها طلاب المدارس من خلال معسكرات الشباب الصيفية، فحولها إلى غابات خضراء ومناظر جميلة كما نشاهدها اليوم في مناطق عديدة.
وصفي التل كان رئيس الوزراء الذي فتح باب مكتبه لعامة الناس، يستمع لشكاواهم ويلبي الممكن منها. وهو من عُرف بنظافة اليد، ومحاربة الفساد، والحفاظ على المال العام، وإنصاف المظلومين. وقصة المواطن الذي قدّم طلبا للإفراج عن ابنه السجين، تظهر عطفه وتسامحه مع المواطنين كافة.
* * *
وحول الهدف الثاني لوصفي التل، والذي كان يتمثل في وضع خطة لتحرير الأرض الفلسطينية المغتصبة، فقد كان ذلك محط فكره واهتمامه، فعبّر عن ذلك بقوله : ” إن مأساة الشعب الفلسطيني بالنسبة للأردن، ليست مأساة شعب شقيق، ولكنها مأساة الأردن وشعبه أولا وأخيرا “.
وفي إجابته لأحد الصحفيين في أعقاب حرب حزيران، عن الحل الذي يحفظ للأمة كرامتها قال : ” لا حل ولا كرامة للأمة إلاّ بالقتال. فعندما كنت أعارض فكرة الحرب في الماضي، كنت أعلم أن ذلك الزمان ليس الزمان الذي نستطيع فيه محاربة إسرائيل. وكنت أفعل ذلك بشعور المسؤول . . إذ كانت بين يديّ كما كانت بين أيدي معظم المسؤولين العرب، الحقائق والأرقام التي تؤكد أن أية معركة في ذلك الحين ستكون في مصلحة إسرائيل “.
أما اليوم . . فإنني أتحدث بشعور المواطن . . شعور المناضل . . إنني لن أصدق بأن إسرائيل ستقبل التنازل عن شبر من الأرض، إلاّ ويكون ثمنه أمجادنا وكرامتنا وتاريخنا وحياتنا. إنني لا أقول اليوم بقتال الجيوش التقليدية . . إنني أقول بقتال لا يمكّن إسرائيل أن تقطف ثمار عدوانها واحتلالها . . إنني على استعداد أن أقوم بتشكيل فرق من المقاتلين لا يزيدون عن المئتين، وأعبر على رأسهم النهر، وأتمركز في منطقة جنين والحولة وطبريا، تلك المناطق التي سبق أن قاتلت فيها عام 1948، عندما كنت قائدا في جيش الإنقاذ الفلسطيني.
وإني على قناعة تامة، بأنني بالتعاون مع فرق أخرى في بقية المناطق، سنعيد ما فقدته الجيوش العربية “. وحين سئل اسحق شامير عن الشخصية العربية التي كانت تشكل تهديدا لإسرائيل، أجاب بأن وصفي التل هو الشخصية الأخطر على إسرائيل، لأنه كان يدعو دوما إلى اعتماد المقاومة الشعبية ضد إسرائيل.
في قناعة وصفي أن هزائمنا من عام 1917 وحتى عام 1967، تعود في معظم أسبابها إلى قصور العقل والخُلق عن قيادة المعركة، وأن النصر لن يتحقق إلاّ بعد أن يتسلّم العقل والخُلق معركة التحرير. والركن الأساسي في هذه المعركة هو ( الإرادة ) التي تعبّر عن موقف عقل وخُلق، وتشكل إرادة القتال وإرادة الحشد والنصر.
لقد كان لوصفي رؤية سياسية، واقتصادية، وعسكرية. ولكنه أكّد أن نجاح تلك الخطط، يعتمد على تحويل المجتمع إلى مجتمع حرب، ولابد لكل مواطن من المساهمة في معركة السلاح أو في معركة الإنتاج. ومن الجدير بالذكر، أن وصفي هو من حذّر القيادة الأردنية، من الدخول في حرب حزيران عام 1967.
آمن وصفي بتحرير الأرض الفلسطينية المغتصبة بالقوة، من خلال إعداد قوة عربية مشتركة، قادرة على إنجاز المهمّة. فحمل تصوره هذا إلى اجتماع وزراء الدفاع العرب في القاهرة، ولكن التآمر ونوايا الغدر كانتا بانتظاره على مدخل فندق الشيراتون في القاهرة، فسقط مضرجا بدمه الزكي، وهو يحمل خطة التحرير بيديه. وبهذا الفعل الإجرامي، اغتال الخونة قضية فلسطين المقدسة . . قبل أن يغتالوا وصفي التل على أرض الكنانة.
أخاطبك اليوم يا وصفي في عالمك الآخر وأقول : لقد غادرتنا بلا استئذان، فتركت كرسيك شاغرا لأكثر من نصف قرن، وكان اهتمامك خلال توليك المسئولية ينصبّ على مصلحة الوطن والمواطن، فصنعت هيبة الدولة، وأنجزت مشاريع اقتصادية وتنظيمية وتحريرية، وجسّدت آمال وطموحات المواطنين في مستقبل مشرق، إلاّ أن القدر اختطفك قبل أن تنجز ما تفكر به. بالمقابل فقد منحت روحك ودمك الزكي فداءً للأردن وفلسطين.
وفي الختام . . لا أجد أفضل تعبيرا لتقديرك، إلا الامتثال بقول عمر بن الخطاب إلى أبي بكر الصديق، رضي الله عنهما فأقول : ” لقد اتعبت من جاء بعدك يا وصفي “. ولهذا سكنت في قلوبنا، واحببناك حاضرا وغائبا، فنحتفل بذكراك في كل عام، على مدى الزمان، علّنا نوفيك بعضا من حقك، لما قدمت لأمتك ووطنك، من أعمال مجيدة تنير سبيل التائهين.
رحمك الله يا وصفي . . شهيدا وطنيا، طاهر السيرة والسريرة، وجعل مث واك جنات الخلد، مع الأنبياء والصديقين والشهداء، وجزاك الله عنا خير الجزاء، وتبّت أيدي الجبناء وخونة الأوطان . . !
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.