الدَّربُ ضاقَ ، حقاً ضاقْ / د. سمير أيوب

الدَّربُ ضاقَ ، حقاً ضاقْ
ثرثراتٌ في الحب
ذاتَ غروبٍ صيفي رائع ، كنت فيه الشاهدَ والشهيدْ ، إحتَضَنَتي قبل اسبوعٍ ، بحنانٍ نادرٍ صخرةٌ جميلةٌ مُلَونة ، في جبالِ الشراةِ جنوبَ الأردن . أطْلَلتُ مِنها على المدينةِ الورديةِ ، التي أسموها الرقيمَ أو المُبَرْقَشَةِ أو البتراء . عَشرةٌ من حَواسِّيَ كانت في حينها ، مُتَشاغِلَةً على غيرِ هُدى ، بِرَحيلٍ مُتثاقِلٍ لِبَقايا ضِياءٍ ، تُداعِبُهُ مَوجاتٌ مُتتالية من نسائمِ البادية ، المُحْتَضِنَةِ لوادي موسى ووادي رَمْ . تَعْزِفُ لِبقايا الضياءِ لحنَ رُجوع . حين تَناهى إليَّ همسُ عِطْرٍ فوَّاحٍ . داعَبَتْ طلائِعُهُ أنفي البارع ، في مُعاقرَةِ أريجِ الوردِ الجوريِّ الدمشقي .
فَتَحتُ عَينيَّ الحاذقتين على إتساعِهما . وأدَرتُ رأسيَ في كلِّ إتجاه ، بَحثاً عن مَنْبعِ هذا العِطرِ المُداهِم . أكثرتُ من التلَّفُتَ يَمنةً ويَسْرَةً . وفي كلِّ مَرَّةٍ ، كان يَرتدُّ إليَّ بصري ، دونَ تَبيَّنِ أيِّ شيءٍ .
ولكنَّ ، وقعُ خُطىً مُتردِّدَةً ، سرعانَ ما باتَ في مدى راداراتِ سَمْعي . أصَغتُ السمعَ مُطرِقاً ، عَلَّني أتَبيَّنْ . خُطىً أُنْثَويَّة أنيقة ، كانت تزدادُ إقتراباً. ثم سكنَ الصوتُ . وغمرَالمكانَ بَوحُ الجوري ، مُوَشىً بِشئٍ من الياسمين المغربي . رفعتُ هامتي لأبادلَ تحيةً بِتحيةٍ ، خِلْتُها تَنهيدةً تُدغدِغُ سَمعيَ على إستحياء .
عَرَفتُها في الحال . تأمَّلتُها وأمعنتُ النظر . مَسَرَّةٌ لِكلّ منْ يَرى . شابّةٌ تكادُ تَقتربُ من عَتبَةِ السبعينَ من عُمرِها إلا قليلا . زرافةٌ ممشوقةُ القَدْ . مُنْتصبةُ القامة . غَمازةٌ في صَحنِ الخَدْ . وشامَةٌ ناعمةٌ ، تُساكِنُ شفتَها العُليا . زينَتُها أنيقةٌ بلا إبتذال . عيناها مسكونتانِ بفيضٍ من بَسماتٍ مُطمئنة . وهي تَمُدُّ للسلامِ كَفَّاً ناعماً مُزَيَّناً بأصابعِ عازفةِ بيانو ، هَمْسٌ مَبحوحٌ راقصَ شفتيها المكتنزتين المُتوردتَينِ كحبتيِّ كرزٍ مُكَحلٍ . وهي تقول : بَحثتُ مُطوَّلا عنك ، عندما علمتُ بالصدفةِ ، أنك معنا مُقيمٌ ، هنا في المخيمِ السياحي نفسه في وادي رم .
أظُنك تعلَم أنَّ وِحدَتي جُثةً هامدةً . مَلَلْتُ أوجاعَها . يَتْبَعُني صَمْتُها الباردُ في كلِّ مَكان . في الليلِ لها زُقاءُ بُوَمْ ، وفي النهارِنَعيقُ غِرْبان . تُحيطُني كلَّ ليلةٍ بِظلالِها بين طَيَّاتِ فِراشي . منذ تَرَمَّلتُ قبل عشرين عاما ، بِفَظاظَةٍ وغِلظَةٍ ، ترسم ليَ الكثيرَ من ملامحِ أقداري .
على قَدْرِ الوَجْدِ والرجاءِ ، جاءْ . إلتقيته في مضمار الهرولة ، في أحد نوادي اللياقة البدنية . أرسى كَقرصانٍ الكثيرَ مِما يُعاني في سُفنُي . فَرفعتُ مِرساتي . وأبْحَرَ معي فيها كَقُبطان . وباتَ كغارِ حِراءْ ، ألجأ إليه لِلتْهَجُّدِ فيه ، من أقربِ المسافات . كلما أمْطَرتنْي ثَرْثرةُ من يَعرِفُنا شَتْماً ، يُمطِرُني طَيفُه عِطْراً . يَصْحوَ العمرُ مُعانِقاً ، وأغفو مُستمتعةً بالحياة . وكلَّما زارتْني المَرايا ، أستغفرُ الله وأغرقُ في إلتِّيهِ بِلا إمتِنانٍ .
أحاولُ تَحديدَ مشاعري ، والعيشَ بِسلامٍ مع جسدي ، فأخجلُ من سِني عُمري . ولا يريد أحدٌ مِمَّن حوليَ أنْ يُدرِكَ ما بيَ من تعقيداتٍ صاروا كالخيبةِ ، طُرُقُهم تَعِجُّ بألوانٍ من الكراهيةِ المُتعرجَه . .
أنتَ تعلمُ يا شيخنا أن الدربَ قدْ ضاقَ . لَمْ يَعُدْ فيهِ ما يكفي ، لِسنينٍ عِجافٍ أخرى ، أو لِمرورِ لو تِنهيدةٍ عاقةٍ أو شَهقةٍ عابِثَة . قُلْ لي يِرَبِّك …
قَبلَ أن تُكملَ قَوْلَها ، قاطعتُها وأنا أمْسِكُ بِيدها : هيَّا بِنا إلى المُخَيَّمِ قبلَ أنْ يُرخِيَ الليلُ عَتْمَه ، فَفي البالِ قولٌ كثيرٌ مُتَمِّمٌ . نُكْمِلُهُ فيما بَعْدْ .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى