قوت من الموت / د. هاشم غرايبه

قوت من الموت

عرفت معنى هذه العبارة،عندما سألت أحد عمال المياومة الذي كان يعمل لدى المقاول الذي يبنى عمارة سكنية مقابل بيتي، سألته عن دخله، فقال أتقاضى خمسة عشر دينارا عن اليوم الذي أعمل فيه.
قلت: وكم يوما في الشهر تجد عملا؟، قال خمسة عشر يوما في الحد الأعلى، فقلت أويكفيك ذلك لقوت عيالك ومصاريفهم؟، فرد بعبارة موجزة: قوت من الموت، أي لا يسمن ولا يغني من جوع بل ما يبقيهم على قيد الحياة.
وجدت أن هذه العبارة تصف أيضا حالة الأردنيين الراهنة، فهم يحمدون الله يوما بيوم على بقائهم صامدين رغم استنزاف الدولة المتزايد لما في جيوبهم، والذي جرى على عدة أصعدة:
1 – فرض الضرائب والرسوم الباهظة، والتي ينوء بحملها من كان دخله جيدا، فكيف بذوي الدخول المتوسطة والمتدنية الذين يتشكل منهم 97 % من قوام المجتمع.
2 – تمكن المتحكمون بمفاصل القرار من ابتكار وتطوير أكثر من 100 نوع من الضرائب والرسوم، وذلك بعد أن نضبت موارد الدولة الأساسية إثر بيع كل مؤسسات القطاع العام تحت مسمى الخصخصة منذ بداية الألفية الثانية.
3 – كان المبلغ المتحقق من عملية الخصخصة هزيلا، ولا يزيد عن العائد السنوي المتكرر من تلك المؤسسات والشركات، مما يشي بالعمولات السرية الضخمة المتحققة للمستفيدين الشخصيين من وراء تلك العملية.
4 – لم يُعلن عن القيمة وبقيت مبهمة وتتراوح حصيلة البيع بين 5-7 مليارات جمعت بين أعوام 1998 – 2001 ، وعد أصحاب القرار بانه سيُحتفظ به تحت مسمى صندوق الأجيال، إلا أنه فقدت آثاره، إذ تبخر خلال فترة قياسية، ونسي المسؤولون وعدهم.
5 – بعد إذ لم يبق مورد للدولة غير الضرائب والرسوم، فقد انصب جهد الدولة على التوسع بهذا الباب حتى بلغت تشكل 83 % من موارد الخزينة، وهي أعلى نسبة في العالم.
6 – لو أخذنا عينة ضريبة المبيعات التي تلجأ إليها الدول لتخفيف حمى الإستهلاك فتفرضها بتدرج على السلع الكمالية، وبحد أعلى 10 % لكي لا تؤدي النتيجة العكسية وهي كساد الأسواق، لكنها في الأردن مفروضة على كل سلعة يستهلكها المواطن، وحتى على الرسوم والخدمات الرسمية، ونسبتها تبدأ من 10 – 55 % ، لذلك أدت الى نتيجتين مدمرتين للإقتصاد: الأولى أنها تثقل كاهل الفقراء وذوي الدخل المحدود أكثر من الأغنياء والمترفين الذي يتسوقون من الخارج أكثر، والثانية أنها أدت الى كساد الأسواق وإفلاس أصحاب المتاجر الصغيرة التي كانت وسيلة عيشهم الوحيدة، مما فاقم من البطالة والفقر.
7 – أما ضريبة الدخل التي تعتبرالمصدر الرئيس الثاني لميزانيات الدول بعد الموارد الطبيعية، فمبدؤها الأساسي هو
“NO TAXATION WITHOUT REPRESENTATION” أي هي عماد النظام الديمقراطي الغربي، فلا ضريبة بلا تمثيل وبلا خدمات، لكنها في الدول الفاشلة تعتبر غرامة للمواطن مقابل منحه جنسية الدولة.
مبدئيا وحتى تحقق الضرائب غايتها في العدالة الإجتماعية يجب تكون متصاعدة حسب الدخل، لأن ذوي الدخول العالية يستأثرون بالمنافع الأعظم وينالون مصالح أكثر، وأموالهم متحصلة من جيوب المحتاجين لسلعهم وخدماتهم.
لذلك ولأجل تفريغ ضريبة الدخل من محتواها، فقد فرض البنك الدولي على الأردن قانونا جديدا، يحمل الضرائب لمن كانوا معفون بحكم دخولهم الفقيرة، وبالتالي فهدفها زيادة الضغوط الإقتصادية .
8 – الضرائب الجمركية وجدت لحماية الصناعات المحلية، والتي لا يمكن أن تنافس الصناعات الغربية المتقدمة، لكن اتفاقية التجارة العالمية التي فرضتها أمريكا منعت الدول المتخلفة من ذلك، فحرمت من عوائد الجمارك، علاوة على ترك صناعاتها في مهب الريح، غير أن الدولة الأردنية نالت معاملة خاصة، فسمح لها بتقاضي العوائد العالية ذاتها، لكن بمسمى (ضريبة خاصة).
9 – يشكل إتجار الدولة بالمحروقات أضخم استثماراتها، ولما كانت أسعار النفط معلنة، وكذلك أسعار بيع المشتقات النفطية تحددها الحكومة، فيمكن بسهولة استخراج فارق الربح، والذي بينت في مقالات سابقة، أنه لا يقل عن 100%.
من كل ما سبق يتبين لنا أنه ورغم كل ما يتكبده المواطنون، فيبدو أنه يراد لهم أن لا يبقى لهم من قوتهم إلا ما يبقيهم على قيد الحياة…أي قوت من الموت.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى