سقف الرحمن / د . ديمة طهبوب

سقف الرحمن
لم تنفك الحركة النسوية العالمية تحاول تغريب المرأة العربية والمسلمة منذ أن دخل الاستعمار بلادنا لأنهم علموا أن المرأة عمود التربية والرعاية وهي التي تنشئ الأجيال القادمة وعلى قدر دينها وخلقها ووعيها تكون صلابة الجيل أو هشاشته، قوته أو ضعفه، فالمرأة في حلقات التاريخ الكبرى والمراحل الحاسمة كانت إما عامل نصر أو هزيمة أو تثبيت أو تثبيط وليس من مبالغة أن قيل «فتش عن المرأة» وراء كل عظمة وكذلك كل مصيبة!
غير أن الغرب في سعيه لإحكام السيطرة علينا نقل إلينا أفكاره وصراعاته بين الرجال والنساء والأنوثة والذكورة القائمة على الندية والاقتتال والمحاصصة الجنسية والعددية في مواقع العمل والحياة، وانسقنا كعرب بجهالة أحيانا وبعمالة البعض للغرب أحيانا أخرى لاعتماد هذه الأنماط الفكرية والسلوكية في العلاقة بين الرجال والنساء مستبدلين ما لدينا من ثقافة الود والرحمة وخفض الجناح وتقديم النساء على الرجال في كثير من الحقوق بتمييز إيجابي تفضيلي لم ينله الذكور بالرغم مما يُنسب الى الاسلام من كونه دينا أبويا ذكوريا يستضعف المرأة ويخفض من شأنها!! وأمطرنا الغرب بالمصطلحات التي أصبحت رائجة في ثقافتنا مستعملة بترديد بغبغائي دون إدراك لمعناها ومنها مصطلح السقف الزجاجي وهو يشير الى وجود سقف مرئي أو غير مرئي أحيانا يضعه المجتمع لتحديد طموحات المرأة وانجازاتها
لسنا في معرض تقديم الدلائل والاثباتات على مكانة المرأة في الاسلام فتلك تفيض بها كتب الفقه والتاريخ والسير والقصص حافلة والأمثلة تترى، الا من بعض الاراء المخالفة، أما اجماع الأراء وصحيح الممارسات الاسلامية جعل المرأة في موضع الصدارة دائما من أول ميدان الجهاد بالحرب الى ميدان الجهاد بالحب فالتربية على الفضائل في زمن يمتهن انتهاكها جهاد بحد ذاته وبث الحياة والأمل وهو صنيعة المرأة جهاد مقدس كما هو الجهاد بالسلاح، وان كان من سقف زجاجي استورده العرب من الغرب فهو سقف وضعوه بالبعد عن تعاليم الدين وتطبيق الأعراف والعادات والتقاليد التي استضعفت المرأة وحرصت على ابقائها تحت سيطرة الرجال بدعاوى الحرص والعيب ملبسة ذلك مسوح الدين والدين منها براء
لقد عاشت المسلمات عهودا ذهبية أيام كان الكتاب والسنة ومصادر التشريع الاسلامي تضع للناس قوانين حياتها فكانت النساء في زمن الرسول صل الله عليه وسلم أكثر حرية وكرامة وتحصيلا لحقوقهن في زمن كان الرجال لا يملكون الشهادات الجامعية ولا الدورات ولا المهارات، كانت كل مؤهلاتهم تتخلص في الخلق الرفيع والصدق المتين الذي اكتسبوه من مناهج القرآن والسنة بينما أصحاب الشهادات في يومنا هذا والذين يفاخرون بالطواف حول العالم وتجريب ما لم يجربه الآخرون لا يعرفون كيف يعاملون المرأة التي أعطتهم الحياة أما وأغدقت عليهم الحب والحنان زوجة وأعطتهم الامتداد والستر من الجنة ابنة وطول الأجل وسعة الرزق كرحم يجب وصلها
ربى الرسول المسلمات على الاستقلالية وحرية التعبير والشجاعة والإقدام فكن يأتينه صل الله عليه وسلم للشكوى والاستشارة والعلم وترتفع أصواتهن عنده حتى كاد سيدنا عمر الفاروق أن يبطش بهن في مرة فخفن منه فزاد في تقريعهن قائلا»أي عدوات أنفسهن أتهبنني ولا تهبن رسول الله؟! فردت النساء: نعم أنت أفظ وأغلظ من رسول الله»
نعم لقد كان رسول في مقامه كرسول ومشرع ومخبر عن ربه وكان أيضا في مقام انسانيته التي مدحها الله بالخلق العظيم واللين والحرص والرأفة بالمسلمين، فكلما فهم الرجال عن ربهم لا بد أن يكونوا كما كان الرسول أرضا ذليلة وسماء ظليلة لأي بنت من بنات حواء، وكلما جهلوا ظهرت فيهم كل عيوب الاستقواء والخشونة والظلم
لم ينح الاسلام المرأة عن أدق المواقع بل وأعطاها مكانات وألقاب لم تعرفها المجتمعات المحيطة من قبل فجعل منهن السفيرة كأسماء بنت يزيد والمحتسبة كالشفاء القرشية والمحدثة والفقيهة كالسيدة عائشة رضي الله عنهن جميعا وأسقط عن كاهلهن كل ما يمكن أن يحول بينهن وبين إدراك العظمة في الدنيا والآخرة فامرأة كأسماء بنت أبي بكر دخلت التاريخ من أوسع أبوابه والطفل قبل الكبير يعرف دورها في الهجرة ويعرف لقبها (ذات النطاقين) ومن زاد في المعرفة يعلم أنها وقفت لطاغية عصره الحجاج متعالية على مشاعر الأمومة وآلامها ودعت لابنها عبد الله بن الزبير وقد خرج من عندها»: اللهم ارحم طول ذلك القيام في الليل الطويل، وذلك الظمأ في هواجر المدينة ومكة، وبرَّه بأبيه وبي، اللهم قد سلَّمته لأمرك فيه، ورضيت بما قضيت فأثبني في عبد الله ثواب الصابرين الشاكرين» وساندته على طريق الحق حتى عُلق مشنوقا وهي صامدة تمر به مصلوبا دون ندم ولا تراجع وتكتفي بعبارة «أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟!» بل وتجرجر الحجاج حتى يأتيها ولا تأتيه وتلجمه بقوة منطقها وبلاغة حجتها
تفعل كل هذا ويدخل اسمها في التاريخ بأعمال عظيمة ولا يعرف الكثيرون أنها كانت من ناحية الحالة الاجتماعية امرأة مطلقة،و هذه سُبّة في عصرنا وقيد كان كافيا أن يجعلها قعيدة البيت وحبيسة الشائعات وأسيرة إحسان وكفالة الآخرين، ولكن المجتمع الناضج وقتها كان يزن البشر بأعمالهم وأخلاقهم وهذه فقط كانت شهادات القبول والرفض للرجال والنساء وما كان لأسماء بعد أن تربت في المدرسة النبوية وبلغت من النجاحات ما بلغت أن يكسرها شيئ مهما كان صعبا على المرأة كالطلاق
إن الزمان استدار دورته وعادت بنا الظروف الى أيام الصحابيات ومعانقة المعالي وصناعة الأحداث لا انتظار نتائجها وتحمل أعبائها فقط، لقد خرقت النساء في المدرسة الفلسطينية كل قيود المجتمع الجائرة وقدمت للعالم أيقونات في الصبر والتضحية والبسالة وكان وجود هذه القدوة الحية المعاصرة عاملا محفزا لنساء الثورات في العالم العربي على الاقتداء فكان سهلا أن تودع المرأة ابنها للميادين ويأتيها شهيدا فلا تقبل تعزية من أحد بل وتزغرد في استقباله، كان سهلا ومحببا الى نفسها ان ترابط ودعاؤها أن يختم الله لها بالشهادة، وتواجدت لشهور وسنوات مع الرجال في ذات الأماكن مع حفظ حدود الدين والتعاون على البر والتقوى دون أثم ولا معصية
لقد خرقت النساء المسلمات السقف الزجاجي الذي أوجدته العادات والتقاليد البالية مبتعدة بنا عن روح الاسلام والتحمت بسقف الرحمن وبظلال شريعة محمد الذي أعطى المجال يوم أحد لأم عمارة أن تدافع وتحامي عنه وأدخل اهلها الجنة بصنيعها
لم يعد بإمكان النساء العودة الى الوراء أو التنازل عن العلياء التي بلغتها همة النساء في فلسطين ومصر وسوريا وفي العراق وكل دول الربيع العربي، ليس في التراجع وجهة نظر وإنما خيانة بحتة لدماء الشهيدات وتضحيات الأمهات والزوجات والبنات، ومن لم يتغير عقله من الرجال والمشايخ بعدما حصل فسيقفز عنه الزمان ويمشي فلم يعد هناك مجال لامهال المثبطين لمراجعة ما بلي من العادات الدخيلة على الدين، فالمرأة لم تعد رديفا بل أصبح وجودها ودورها أساسيا وأصيلا
لسنا بحاجة لبضاعة الغرب فخذوها عنا وارحلوا ففي تاريخنا وحاضرنا ما يرفعنا الى العلياء للالتحام برحمانية هذا الدين الذي أوصى بالنساء وقوته الذي فرض لهن وجودا وحقوقا ومكانة
نساء المسلمين اليوم غير وسيبقين كذلك الى مزيد من العمل والانجاز
سقف الرحمن حده سماوات سبع فتعسا لمن لم تطمح وتعمل للوصول اليه وتعسا لرجال يريدون إلصاق المرأة بالأرض!

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى