يعْشَقون الأرْضَ ,لكنْ يعشقونَ الخبزَ أَكثرْ

يعْشَقون الأرْضَ ,لكنْ يعشقونَ الخبزَ أَكثرْ
د. جودت سرسك

يغرّد محمود درويش بكلمات الشعرِ التي ما عادتْ تُطربُ كما كانت مِن قبلُ, حينَ كنّا نعرفُ لحنَ الكلماتِ وعروضها, حين كانت تتغنّى الأمُ بكلماتِ الشعور والنغَمِ الحنون وهي تصفّط ملابسَ البيت في الخزانات العتيقة وتعِدّ خبز الصباح الذي ينعكسُ على وجهها توهُجاً وألقاً,حين كانتْ تكتفي بقليلٍ من الكُحلِ فوقَ حرفِ عينيها ليجعلها قمراً وغزلاً ينساب في كلماتِ السيّاب : عيناك غابتا نخيلٍ ساعةَ السحرْ, أو قبلتان راح ينضوي تحتها السَحَرْ.كان للشعرِ مذاق ٌ تترنمه جدّةٌ قافيتها وشمٌ يزيّن معصمَها وحروفُ وحيٍ نزلَ على وجناتها وتجاويفِ ذقنها الرومانيِّ المتخفّي بطرفِ وشاحِها حياءً مِنْ رجال الحيّ.
إنّا نحبّ الوردَ ,لكنّا نحبُ القمحَ أكثرْ.ونحبّ عطرَ السنابل, لكنّ السنابلَ منه أطهرْ.وأعذبُ الشعرِ أكذبه وأمجنُه وأجمل الكذبِ كذبُ أصحابِ السياسة إذ يكذبون باحتراف ودون وجلٍ لأن سلطةَ الشرطة وزنُهم وقافيتُهم ولا بأسَ بشيءٍ من الكذب والظرافةِ تماشياً مع كذبة الكورونا العالمية التي كشفتْ مواهبَنا السياسية والاقتصادية والدينية والطبية.
سُئلَ أعرابيٌّ عن مدى فصاحته وقدرته على كشف الزيف وكذبِ الرجال فقال: إذا رأيتُ قفا الرجلِ عرفتُ خُلُقَه وإذا رأيتُ وجهه فذلك كتابٌ أقرأه.إنّ من يتصفح وجوه المسؤولين يعرف صدقهم وتفانيهم الذي لم نعهده من قبلُ حتّى إنّ المواطنَ أصبح محتاراً في علمِ فراسته ويخشى من حدوثِ لبسٍ في المشهد الحكومي , ولكنّ الزين لا يكتمل كما تقول جدّة هذه الأرض وتراثها . تعكّر مؤسسة الضمان الاجتماعي صفوَ وبريق الحكومة حتى اختلط قفاها بوجهها وصدقها من كذبها وتداخلت قمصانها التي ترتديها كقمصان إخوة يوسف الثلاثة, قميصٌ ملطّخٌ بالجباية وقميصٌ مزّقته زليخة الإكراه وقسر الاشتراك بمؤسسة الضمان الاجتماعي لصاحب مكتبة يطفيءُ إنارة دكّانته نهارا توفيرا لفاتورة آخر الشهر أو صاحب مكتبٍ تجاري يخبيْ سكرتيرته من سطوة لجنة التفتيش التي تحمل صفة الضابطة العدلية حتى لا يغرّم على سنوات عدم إشراكها لعجزه عن دفع المائة دينار شهريا مقابل ذلك الاشتراك القسري.وما زال قميص وجهِ يعقوب غائبا في سرداب آل البيت ننتظره لتردّ الحكومة لنا البصر بعد حزنٍ على تعطّل أعمالنا ونقص أرزاقنا.
حالُ لسان حكومتنا الصبرُ والتناصح ومداراة سفهاء الفيس بوك ومحلّلي الفضاء الوهمي وتقبّلها للممازحة والتعليقات تقديراً منها لحال شريحة كبيرةٍ تضرّرت مصالحها ولا تثقُ بكلّ إجراءاتها لأنّ سجلّها حافلٌ بطقوس قرصِ الأذنِ وتمريغ الأنف.
إنّ حكومتنا تعيشُ أزمة موارد ماليّة وتكاليف جيشٍ كاملٍ من الكوادر الحكوميّة المترهلة والتي لا شكّ بدأت تنفض الغبار عن كاهلها عبر برامج التطوير وتسهيل الخدمات على المواطنين عبر الحكومة الالكترونية وتطبيقات الكورونا وما قبلها ولكنّ الحكومة هي سبب تلك الأزمة .يقول تشرتشل السمين رئيس وزراء بريطانيا لبرناردشو الأديب النحيف : من يراك يظنّ أن بريطانيا في أزمة غذاء,فردّ عليه : ومن يراك يعرفُ سببَ الأزمة.
لقد وصل الأمر في العامّة والخاصة أن اعتدوا على ذي النورين فمات شهيدا ولطّختْ دماؤه صفحاتِ المصحف الشريف, وقد أسمع أبو ذرٍّ الغفاري عثمانَ بن عفانَ رضي الله عنه كلماتِ النّاس واعظاً وهو من خيرِ مَنْ أقلّت الخضراءُ وأظلّتْ الغبراء: ويلٌ للأغنياء من الفقراء.
يهيم القلب بين الماضي والحاضر ويحلّق فوق قصور الأندلس لينشد :جادك الغيثُ إذا الغيث هما يا زمانَ الوصلِ في الأندلس. لقد خاطب المؤمنون الحسن بن عليّ بقولهم : السلام عليك يا مذلّ المؤمنين وذلك لمبايعته معاوية بن أبي سفيان,ومعاوية هذا تشهد له منازل الحجّ الشامي في الأردن في خانِ (الفدين) في المفرق وفي عمّان سوق الحجاج ومركز سكّ عملتهم,وفي زيزيا (وسرغُ) المدوّرة و(أيلةُ )العقبة.
لا بصمات لنا في عصرنا الحالي الذي أصبح القطار السريع الذي قطّع أرزاق الناس ,أصبح مشروع الزمان ,ومن عجيب القول أنَّ مَنْ يُسحَقُ تحتَ ثنايا القطارِ السريع لا يجد تأمينا صحيّا يداويه ,وقد كانت الرعاية الصحيّة في عهد معاوية والأمويين تشمل إنشاء دور للمسنّين والإنفاق عليهم ودواوين الزّمنى وأصحاب العمى والشلل والجذام ومنحهم الرواتبَ وتعيين أفرادٍ لخدمتهم, ونحنُ ما زلنا ننتظرُ بركاتِ القطارِ السريع.
وما بين المعونة الوطنية في الكورونا ومعونة الأمويين بونٌ شاسع ,فمن يتتبع كتاب تاريخ الصف السابع في وزارتنا العتيدة يجد أن الدولة الأموية خصصت بطاقاتٍ خاصةً للمعونات العينية وكان عمر بن عبد العزيز يجهرُ بين عمّاله: لا بد للرجل المسلم من سكنٍ يأويه وخادمٍ يكفيه وفرسٍ يجاهد عليه وأثاثٍ في بيته واقضوا ما عليه من دينٍ إن كان غارماً.
لقد توقفتُ عند رجلٍ يبيع الأحذية في زمنِ الأحذية يجهر لي مُقسما أنّه لم تصله معونة وطنية ولا مستوردة, ولا يريدها وإنّ مرادَه هو فكّ قيده ليكسب قوته من بيع أحذية رافقته زمناً وعرَفَ صِدقها وحُسنَ معشرِها.يشيدُ بجارِه الذي يقدّم له الطعام كلّ يوم معلناً وجع شيبته وأن من أوصله لهذا الذلّ هم الخائفون من الكورونا التابعون لسياسات العالم الظالم الذي لا يعرف كرامة إلا بكمّ النفط الذي يسطو عليه.
الخالطين غنيّهم بفقيرهم حتى يصير فقيرهم كالكافي.
والله لا أحبّ أن ألقى الله بأكثر من صحيفة هذا المسجّى تحت الشمس وهو يحثّ الناس على شراء حذاءٍ بعد كلّ صلاة على أبواب المساجد أو المتجوّل بعد الستين من عمرِه يحمل صفحات جريدة الرأي والدستور علّ واحدا من المارّة ينعم عليه بباقي النصف دينار علّه ينزوي لبيته قبل الظهيرة واشتداد لهب الشمس.
لقد دعا رجلٌ بخيلٌ فقيراً على ملوخيةٍ مطليةٍ بلحم أرنبٍ لنذرٍ نذرَه لله , وفي كلّ مرّةٍ يطلب مِن ضيفِه أنْ يتناول مِنْ الملوخية الخضراء الشريفة وأكثرَ عليه من تكرار العبارة حتى ضاق ذرعاً وقال له : يا أخي اتركني أجرّبُ الأرنبَ عديم الشرفِ فقد مللتُ الخضراءَ الشريفة,وهذا حال حكومتنا التي تدفعنا نحو الضمان الاجتماعي قسراً ادّعاءًا أنّه الحماية والضمان ومنتهى الشرف .
يعافُ القلبُ الحديثَ بالسياسة الاجتماعية والاقتصادية في حضرة الشعر والأدب ولكنّ ضرورة النشْر والشهرةِ تدفعك للإنجراف نحو الدواوين والأجناد وقصرِ الحرّانة وعَمرةَ وحكايا الخلفاء وسطوة الحجّاج, الذي صادف أعرابيا فسأله إنْ كان يحفظ شيئا من القرآن فقرأ له : إذا جاء نصرُ الله والفتح ورأيتَ الناسَ يخرجون من دين الله أفواجا.فاستوقفه الحجاجُ وقال : يدخلون أم يخرجون؟ فقال الأعرابي الذي يعرف المرءَ مِن قفاه :كانوا يدخلون قبلك, ولكنّهم بعدك يخرجون.
بارك الله بالمنعمين المنفقين الذين يزرعون الورد ويبثّون عطوره أصحاب الوجوه المسفرة .إنا نحبّ الورد لكنّا نحبُّ الخبزَ أكثر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى