التاريخ معلم

التاريخ معلم
د. هاشم غرايبه

في شريط مصور منشور، يوقف شرطي سير فرنسي أحدهم للتدقيق بأوراقه، يلاحظ أن إسمه “محمد”، فيسأله عن أصله فيجيبه أنه تركي يحمل الجنسية الفرنسية، ولديه مطعم “شاورما” ويدعو الشرطي لتناول شطيرة، الذي يرفض بصلف قائلا: لا فطعام المسلمين غير نظيف، وأخشى أن أمرض، فيرد عليه التركي : إن مبدأ الإسلام قائم على النظافة، والأوروبيون تعلموا النظافة من مسلمي الأندلس، ففي الوقت الذي كانت الأندلس فيها حمامات عامة وشبكة مجاري مغلقة، كانت قنوات المجاري في باريس مكشوفة، وما تطور صناعة العطور الفرنسية قديما إلا لإخفاء الروائح المنتنة جراء قلة الإستحمام.
طبعا بعد أن أفحمه، احتد الشرطي وقاده الى المركز الأمني بتهمة إهانة الجمهورية الفرنسية.
يحلو للبعض – وبذريعة نقد تاريخنا – القول أن تاريخَنا كلُّه محنٌ، وأيامَنا كلها كربلاء، وهو بذلك يحاول الإيحاء بأنه ليس في تاريخنا ما يشرف، كمقدمةٍ لرفض الإنتماء له، وحُجّةٍ لقطع الصلة بالماضي.
فيما يلي نبذة بسيطة من تاريخ الأوروبيين، حيث تعتبر حضارة روما الأم الحقيقية للحضارة الغربية وتشمل أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية واستراليا، أي ما يدعونه العالم الحر، ويتبجحون بـ “روما” على أنها طبقت النظام الديمقراطي الذي ابتدعه الإغريق، لكن في سبيل إضفاء تلك الهالة البراقة يتم التعتيم على كل ممارساتها الوحشية واللاإنسانية ضد الآخر.
في واحد من أضخم الأعمال الدرامية، عرضته إحدى قنوات (ديسكفري)، مسلسل تسجيلي عنوانه “صعود البرابره”، يعرض جانبا من تاريخ روما البشع وتعاملهم الفوقي مع غيرهم من الأمم والأقوام باعتبارهم برابرة =همج، لا يستحقون التعامل الإنساني.
هم يطلقون مسمى البرابرة أصلا على أهل قرطاجة وامتد ليشمل كل شعوب شمال أفريقيا، لكن انسحب هذا المسمى على كل ماهو غير روماني (وحاليا يطلق على العرب المسلمين)، فقد تم استغلال قبائل القوط، وهي شعوب أصلها اسكندنافي انتشرت في أوروبا الشرقية والغربية بفضل شراستهم في القتال، احتاجتهم روما لحروبها الإستعمارية ، فعاملتهم كمرتزقة واستعبدتهم مثلما فعلت قبلهم مع (الأفارقة)، مما حدا بـأحد قادتهم “حني بعل” الى غزو روما، طبعا استعادت روما هيبتها فيما بعد، وقامت بغزو موطنه “قرطاجه”، وبموجب قرار من مجلس الشعب (الديمقراطي) تم تدمير قرطاجة وحرقها عن بكرة أبيها وقتل كل أهلها ثم قام الرومان بدفن مكعبات كبيرة من الملح في أرضها الزراعية لكي لا تعود صالحة للزراعة .. تم هذا بغطاء ديمقراطي ! لكنه لم يكن له مثيل في البشاعة والقسوة عند أكثر الإمبرطوريات الأخرى شراسة.
بعد ذلك بسبعة قرون سادت خلالها امبراطورية الرومان بالقوة، استغلت رغبة القوط في استعادة المنطقة التي استوطنوها في حوض الدانوب وطُردوا منها، فطلبت منهم القتال الى جانبها مقابل إعادتهم لكنها بعد أن تحقق غرضها، نكثت بوعدها بل قامت بإذلالهم باعتبارهم برابرة أيضا، ثم قتلت قائدهم، وعندها وحدوا قوتهم وهاجموا روما ودمروها، ثم طُردهم الرومان واتّجهوا غربا واستولوا على اسبانيا، وكان آخر حكامهم “لذريق” الذي سعى الإسبان للتخلص منه بالإستنجاد بطارق بن زياد عام 711.
لم تتوقف الحروب الجهنمية في أوروبا إلا عام 1945، ففي القرن الرابع غزتها قبائل “الهون” التي كانت تقطن المجر، وكان أشهر قادتهم “أتيلا” المرعب الذي أسال أنهارا من الدم بهدف الحصول على الذهب، لكنه خلّف في ذاكرة الأوروبيين أثرا لا ينسى من الهلع والخوف.
لا يتسع المقام لذكر الحروب المتتالية سواء ما كان منها بين الأقوام الأوروبيين، كهجمات الفايكنج الرهيبة، أوحرب المائة عام، أو لغزو العالم الجديد بذريعة الإستكشاف العلمي أو غزو مناطق العالم القديم، لكن المشترك بينها جميعا أنها كانت بدوافع الأطماع، ولم تكن أي منها لأهداف نشر فكر إنساني أو حضارة أو تقدم .
وهنا الفارق الهائل بين حروب الدولة الإسلامية التي كانت بهدف نشر الدين وليس للإستيلاء على ثروات الشعوب المغلوبة، ورغم أن الصراعات السياسية لم تغب عن المشهد، إلا أنها لا تقارن بقسوة الصراعات الأوروبية .
نستخلص أن تاريخ الديمقراطية الغربية ليس مشرفا لدرجة أن يحتذى منهجا، وتاريخنا الإسلامي ليس مخجلا لدرجة أن نقطع الصلة به، هم لم تمنعهم الإحن من الوحدة، فالأحرى أن يوحدنا موروثنا النبيل لا أن نتنكر له.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى