اشتياق مضاعف

مقال السبت 21-3-2020
اشتياق مضاعف
ما زلت تتمدّدين على خارطة الذاكرة كوطنٍ في عين مغترب..عظيمة ،وبهية ،وكبيرة…كل المسافات بيننا خطوط رصاص ، والممحاة تذكرة سفر…كلما دقّقت في صورتك ملياً ، تيقّنت أنك لم ترحلي،نحن من رحلنا ،رحلنا بسلامنا، ببراءتنا،بطفولتنا، بعيشنا الهني، وبقيت أنت سيّدة العمر الأولى التي لم يُخدش برواز قداستها…
أنا ما زلت كما أنا يا أمي ، تماماً كما كنتِ تعرفينني في الوفاء؛ روتيني ، تقليدي ، عنيد ، لا يتغيّر سلوكي بسهولة..لذا ما زلت أجلس في غرفتك منذ غادرتها قبل ستّ سنوات ، وأشرب من نفس “بكرج” القهوة ،ونفس الفنجان ،وأجلس على الفرشة التي كنت أجلس عليها في حياتك ، أتابع تلفزيونك القديم ، وأضع في بداية السنة روزنامة فوق الروزنامة التي تركتها في منتصف عام 2014 ، ما زلت أحافظ على تقاليدك ،أضع مفتاح دراج “الساطرة” بين الفرشات ، ودعوات الزفاف وفواتير الكهرباء فوق طاولة التلفاز ، ثمة مسبحة “مفروطة” موضوعة في “مكتّة” فوق التلفاز ما زالت في مكانها..أعرف لو كنت على قيد الحياة لجمعت حبّاتها أو ربما لاستعنت بي “للضم الخيط في الإبرة”..زجاج الساطرة الوسطاني المكسور ،تركناه كما هو عمدا، لا نريد أن تدخل يد على يدك..صور الأحفاد معلقة في مكانها وكما أردت لها ان تكون، “عبود” هناك و”شوشو” هنا…
تعرفين أن اليوم حظر تجوّل كما أمروا، لكنّك أفلتِّ من ذلك ببراعة ، منذ ليلة أمس وأن تتجوّلين في روحي ،تدخلين أزقّة الذكريات وشوارع العمر المتعب ، وتطرقين أبواب وجعي..أمي لست حزيناً على ما أنا فيه ، لست حزيناً على مدينتي الخالية ،وأصوات الأولاد المكبوتة في الحواري، لست حزيناً لأنني لم أفلح يتأمين خزين يكفيني يومين، فأنتِ تكفيني العمر كله…حزين لأنني لا أستطيع المرور على ضريحك هذا الصباح أقبّل “الشاهد” وأنقّب العشب البري من بين قطر الندى والنعناع..حزين لأنني هرمت كثيراً ،وتعبت كثيراً،ولعنت كثيراً، واتّهمت كثيراً،وانتظرت كثيرا….تعرّق “القلم السيف” في يدي وما تعرّقت يدي..
حزين أن يمرّ عيدك هذا اليوم ولا أشتم غصن الياسمينة…ولا أبوح لك بما يفور من تنور ألمي، ولا أسمع صوتك من تحت رخام الموت..
أمي الغالية يا موناليزا حوران ،بأمر الدفاع وأمر الأمومة لا تكفّي عن التنقل بين روحي وروحي علّه يشفى اشتياقي المضاعف هذا النهار!…

احمد حسن الزعبي
ahmedalzoubi@hotmail.com

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى