#الأحلام_الضائعة
د. #هاشم_غرايبه
خلال السنوات الثلاثة عشر التي عاشها العراقيون تحت الحصار، كانوا يظنون أنها فترة عصيبة عليهم الصبر وتنقضي معاناتهم، لكن أحدا لم يخطر بباله، أنهم سيترحمون على تلك الأيام، كونها أهون مما تلاها.
ها قد مر على سقوط بغداد أكثر من عقدين من الزمان، وما زال الأمل بالفرج يزداد بعدا.
أذكر في بدايات الحصار، كم كنا في النقابات الأردنية، في أعلى درجات الحماس للتضامن مع أشقائنا العراقيين المحاصرين، فكنا نجهز قوافل الدعم مما نجمعه من تبرعات، وهنالك في بغداد كان تقدير كبير من زملائنا لذلك، رعم تواضع ما نحضره مقارنة بما هو متوفر لديهم، فالحصار كان عمليا استغلالا بشعا من (شايلوك) الغرب للتحكم بثروات العراق الهائلة، فكان برنامج النفط مقابل الغذاء وسيلة قذرة للإستحواذ على عائدات النفط العراقي المصدر، والذي لا تتسلمه الحكومة العراقية بل يحتجز ليدفع ثمنا لبضائع غربية يفرضون سعرها ونوعيتها، لذلك كانت الأسواق غاصة بالبضائع الإستهلاكية، فيما خلا تلك المصنفة على أنها استراتيجية.
لم يكن أصدقاؤنا العراقيون متلهفين على ما نحضره، بل كانوا بحاجة الى تضامننا المعنوي، في وقت كانت الأنظمة العربية (كما كانت دائما) منضوية تحت تحالف أمريكا، ولا تجرؤ على التعاطف مع شعب العراق المحاصر، بل تطالبه كالببغاوات بـ (الإنصياع لقرارات الشرعية الدولية!!).
لكن – في الحقيقة- كان حضورنا وقضاء بضعة أيام معهم، حدثا ينتظرونه بلهفة، فقد كان النظام البوليسي الذي يرتجفون فَرَقاً من قمعه، مرعبا لدرجة أن أحدا لا يجرؤ على التنفيس عن كبته أمام صديق عراقي، إذ أن كثرة المخبرين جعلت أحدا لا يأمن لأحد، فكنا لهم متنفسا، كوننا موثوقين لديهم، فهم يعرفوننا من أيام الدراسة.
“مجيد” هو أحد هؤلاء الأصدقاء، حكى لنا طرفة تقول أن كلباً في منطقة “الطريبيل” المحاذية للحدود الأردنية كان يركض كل يوم عشرة كيلومترات حتى يعبر الحدود الى الأردن ثم يعود مساء، فسأله كلب آخر ماذا تفعل هناك، قال أذهب لأنبح ساعة وأعود، فإنني أخاف أن أنسى كيف يكون النباح لو بقيت في العراق.
رغم أننا جميعا نشهد للرئيس صدام بنظافة اليد والإخلاص، إلا أنني كأغلب العراقيين لم أكن من مؤيديه، بسبب اعتماده نظاما بوليسيا مرعبا، كابتا للحريات، بينما كان يتمتع بشعبية كبيرة لدى الشعوب العربية الأخرى، لأنهم لم يجربوا حكمه، فلا يعرفونه إلا من مواقفه القومية الشجاعة.
ورغم أنه انفرد عن باقي الأنظمة العربية بإخلاصه لوطنه وقضايا أمته، إلا أنني لا أعتقد أن ذلك يغفر له قمعه واستبداده، مثلما لم أجد في انجازات عبدالناصر ما يشفع له جرائمه بحق المخلصين من أبناء مصر ولا غفرانا لهزيمته أمته في حزيران، فالزعيم الذي يستحق الإحترام يجب أن يكون مخلصا أولا لمسؤوليته أمام الله عن كونه راعيا للأمة، ثم أمينا على وطنه وبعد ذلك كله عادلا مترفعا عن نقيصة الأنانية في التسلط والتفرد، وهذه الصفات الثلاث يجب توفرها مجتمعة، لا تنقصها واحدة، وذلك يفسر عدم وجود زعيم في أمتنا منذ قرون طويلة.
رغم ذلك فقد حزنت كثيرا عند موت الرجلين، أسفا على ضياع أحلام كنا نأمل أن يحملاها، لكنهما للأسف كانا يغلّبان الذاتية على مصلحة الأمة، فسقطا في فخ الشعور بالعظمة، فضاعا وضيعا أحلامنا.
المحزن هو مصير هذين البلدين العظيمين بعدهما، فهما كانا من أسّسا حضارة الإنسانية، وعلّما الأمم البدائية في أوروبا وبقية العالم الحرف والنغمة والتنظيم المدني والعمراني.
صحيح أن عبد الناصر كان مخلصا لوطنه وأمته، لكن حب الزعامة أفسد كل برامج الإصلاح ونوايا تحقيق التقدم، فقمعه نال المخلصين وغيبهم في السجون، ولم يبق حوله غير الهتافين، الذي هم بطبيعة الحال طفيليون، سهل اختراقهم من قبل العدو، فكانت هزيمة حزيران.
وهذا العراق بات في أيدي طغمة فاسدة من منتجات الإحتلال، لا انتماء لها لوطن ولا لأمة، فلم تنفع أبناءه حرية التعبير ولا الصحافة الحرة، صحيح أن كلب “الطريبيل” لم يعد بحاجة للركض خارج الحدود، فهو يعوي أنى شاء، لكن عواءه حزين بلا نفع، إذ تسلم الطائفيون الفاسدون الحكم فنهبوا خيرات البلاد، وبات العراق في صدارة الدول الفاشلة المستعطية، بعد أن كانت يده هي العليا.