أيهما أسهل.. التحكم بالبغال أم بالبشر؟ / د . فيصل القاسم

أيهما أسهل.. التحكم بالبغال أم بالبشر؟
من الظلم الشديد أن نصف “الرأي العام” بالبغل، كما يفعل بعض العاملين في الإعلام. ففي ذلك إساءة بالغة، ليس للرأي العام، بل للبغل، فمن المعروف أن البغل، ابن الحمار والفرس، حيوان مشهور بالعناد وكبر الرأس وصعوبة المراس، أي إنه ليس من السهل التحكم به وقيادته حيث تريد، فغالبا ما يحرن بسرعة، وفي أحيان كثيرة يركل صاحبه ركلات موجعة ودامية. وكل هذه الصفات البغلية ليست من خصال الإنسان.

وإذا أراد أحدكم التعرف على سهولة التحكم بالناس وسوقهم كقطعان فعليكم بكتابي “سيكولوجية الجماهير” للمفكر الفرنسي الشهير غوستاف لوبون، وكتاب “بروبوغاندا” للداهية الأميركي الشهير إيدوارد بيرنيس. وبالمناسبة كلا الكتابين كانا الكتابين المفضلين للزعيم النازي أدولف هتلر ووزير إعلامه الشهير جوزيف غوبلز. فقد كان هتلر يضع الكتابين المذكورين وراء مكتبه لشدة تعلقه بهما.

لقد كشف لنا لوبون في كتابه كيف بإمكانك التحكم بالحشود في الشوارع، وكيف بإمكانك سوقها حيث تريد ببساطة متناهية. وجاء بيرنيس ليؤطر ذلك إعلاميا من خلال كتابه الشهير الذي أصبح المرجع الأول والأخير لوسائل الإعلام الأميركية خاصة، والغربية عامة. ولا ننسى أيضا كتاب “المتلاعبون بالعقول” لهيربيرت شيلر.

الكثير منا يعتقد أن الديمقراطيات الغربية محكومة بالرأي العام، وأن الحكومات هناك لا تستطيع أن تقوم بشيء إلا إذا كان الرأي العام موافقا وقابلا بالسياسات والإستراتيجيات المطروحة. وهذه طبعا كذبة كبيرة لا أساس لها من الصحة. فالأصل ليس رأي الشعب، بل من يصنع رأي الشعب، ويوجهه في الاتجاه الذي يريد. وقد سخر أحد الإعلاميين قبل فترة عندما برر أحد المتحدثين تقاعس الرئيس الأميركي على مدى أكثر من عامين عن القيام بإجراء حازم ضد النظام السوري بأنه نتيجة لرفض الرأي العام الأميركي لأي حروب أميركية خارجية جديدة بعد أفغانستان والعراق. ليس صحيحا أبدا أن الإدارة الأميركية تخشى ردة فعل الشعب فيما لو كانت تريد القيام بإجراء عسكري ضد النظام السوري، بل هي في هذه الحالة، كما يقول معارضوها من الصقور، تبرر تقاعسها وترددها بإلقاء اللوم على الشارع الأميركي. وهي كاذبة في ذلك حسب رأيهم، فمن عادة الحكومات الديمقراطية وغير الديمقراطية أن تفعل ما تريد عندما يكون لها مصلحة في تحرك ما، وعندما لا يكون لها مصلحة تبرر صمتها بأكذوبة الرأي العام.

من أسهل ما يكون أن تصنع رأيا عاما في الديمقراطيات الغربية، خاصة في الزمن المعاصر حيث أصبحت وسائل الإعلام السلطة الأولى وليست الرابعة كما كانت في القرن التاسع عشر. العملية حسب تعليمات الداهية الكبير إيدوارد بيرنيس في غاية السهولة، فإذا كان بيرنيس قادرا بوسائله الإعلامية المتواضعة أن يوجه المجتمع الأميركي في أي اتجاه تريده الحكومة في بداية القرن العشرين، فما بالك الآن، وقد أصبحت وسائل الإعلام وحشا كاسرا أقوى من كل الترسانات الحربية، وهي التي تحسم المعارك الكبرى على الشاشات قبل أن تُحسم على الأرض.

عندما فكرت أميركا بالمشاركة في الحرب العالمية الثانية ضد اليابان على نطاق واسع في العقد الرابع من القرن الماضي مثلا، بدأت تبحث عن أعذار وحجج للالتحاق بالحرب على نطاق واسع، فطلبت من بيرنيس أن يضع لها إستراتيجية إعلامية لإقناع الأميركيين، فبعد أيام ظهرت الصحف وعلى صفحاتها الأولى كاريكاتير صممه بيرنيس. الكاريكاتير كان عبارة عن رسم لطائرات يابانية تقصف تمثال الحرية في نيويورك. وما إن شاهد الأميركيون الصورة حتى ثارت ثائرتهم، وبدأوا يتوعدون اليابان بالويل والثبور وعظائم الأمور، ويدفعون حكومتهم إلى التدخل أكثر فأكثر في الحرب. لقد جاء الكاريكاتير كالقشة التي قصمت ظهر البعير، خاصة وأن الصراع احتد وقتها كثيرا بين الطرفين عسكريا.

من الخطأ الاعتقاد أن الشعوب الغربية أكثر ذكاء وفطنة من شعوب العالم الثالث، فعلى العكس من ذلك، فهي سهلة الانقياد، وبإمكانك أن توجهها بسهولة. ولو نظرنا إلى الطريقة التي أدار فيها الإعلام الأميركي الحملة لغزو العراق لوجدنا كيف نجح بسهولة في توجيه الأميركيين دفعة واحدة إلى تأييد القضاء على صدام حسين. وقد ذكرت الإعلامية الأميركية الشهيرة أيمي غودمان أن بعض الصحف الأميركية الكبرى مثلا كانت يوميا تنشر ما نسبته خمسة وتسعون بالمئة من الآراء المؤيدة للغزو على صفحاتها الأولى، وخمسة بالمئة فقط من الآراء المعارضة في صفحات أخرى. ويحدثونك عن الموضوعية والمهنية.

ولو نظرنا إلى تعامل وسائل الإعلام الغربية مع المسألة السورية لوجدنا أنها كانت تعكس فعلا الموقف الغربي الرسمي البارد والمتردد. وبالرغم من البشاعات التي شهدها الوضع السوري من مجازر رهيبة فإن الشعوب الغربية لم تتأثر كثيرا بما يحدث من الناحية الإنسانية، لأن وسائل الإعلام صانعة الرأي العام كانت تريد الشعوب الغربية بعيدة عن الشأن السوري كي تبرر تقاعس الحكومات الغربية، كما يرى منتقدوها. ولو كانت هناك رغبة غربية حقيقية في الدخول على خط الأزمة السورية لصنعت رأيا عاما يبرر لها تدخلها خلال أيام فقط، كما يرون. ولعلنا شاهدنا كيف تحرك الشارع الغربي فجأة لمجرد نشر بعض صور ضحايا الهجوم الكيماوي على غوطة دمشق في ذلك الوقت. فعندما فكرت الحكومات الغربية بالتدخل في سوريا، غدا الخبر السوري فجأة الخبر الأول في نشرات الأخبار التلفزيونية الغربية، وبدأ الناس يدعون إلى وضع حد لمحنة الشعب السوري.

لا أحد يحاول أن يضحك علينا بالرأي العام، فالرأي العام مجرد لعبة مفضوحة تلعبها الحكومات متى أرادت أن تفعل شيئا، وتتحجج به عندما تريد أن تتهرب من فعل شيء.

صحيح أن مواقع التواصل الاجتماعي تحولت إلى منابر وبرلمانات شعبية يمكن أن تنافس الرأي العام الرسمي، لكن الحكومات في السنوات القليلة الماضية بدأت تصنع جيوشها الإلكترونية الجبارة لمواجهة الزخم الشعبي لمواقع التواصل. ولا شك أن الحكومات بإمكانياتها الضخمة تستطيع أن تنافس رواد المواقع الذين يعملون فرادى. بكل الأحوال المعركة بين الرأي العام الرسمي والرأي العام الشعبي في مواقع التواصل ما زالت في أولها، وسنعرف لاحقا من ستكون له اليد الطولى في صناعة الرأي العام.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى