“لحية في خدمة الأمير”.. قصة تحول الدين في السعودية إلى بضاعة

سواليف
بهذه الكلمات، خرج عائض القرني على قناة روتانا في أول أيام رمضان، محذرا السعوديين من التهديدات التي تواجه المملكة من قبل “أردوغان وإيران والإخوان المسلمين”، ومنتقدا الأخطاء التي وقع بها تيار الصحوة سابقا من تحريم مظاهر الفرح من باب الالتزام وأنه “بعد ما نضجنا واكتشفنا هذه المآخذ”، وليؤكد أنه مع الإسلام المعتدل المنفتح الذي نادى به الأمير محمد بن سلمان.

لم يكن تصريح القرني غريبا عن السياق العام الذي اختطه القرني مؤخرا، باعتباره أحد “سيوف الملك” كما يصف نفسه، سواء عبر أشعاره وقصائده التي تسبقه مع كل حدث تقوده السُّلطة السعودية، إلا أن هذا الدور الذي يقوده عوض القرني ورجالات الدين السعوديين يبدو مختلفا عن مرحلة ما قبل محمد بن سلمان، ففي الحين الذي مثّل فيه رجال الدين في التاريخ السياسي ركيزة أساسية بالتوزاي مع القيادة السياسية، فإن سياسة بن سلمان حملت معها اعتقالات متتالية لرجالات الدين الذين يمكن أن يُخالفوا التغييرات الليبرالية التي صبغت سياسات بن سلمان. إلا أن عائض القرني ظلّ مقربا من السُّلطة حتى مع وصول التوتر في العلاقة مع رجال الدين مداها.

وربما يكون استدعاء ما حصل لسلمان العودة مناسبا لهذا السياق، حيث لم يمنع عدم تدخل العودة فيما يتصل بالنقاش السياسي والتفاعل فيما يرتبط بقرارات السلطة في الآونة الأخيرة رادعا للسلطات السعودية من اعتقاله في سبتمبر 2017 وفرض حظر السفر على 17 من أفراد أسرته المباشرين، ومن ثم دعوة النيابة العامة السعودية مؤخرا لإعدامه بعد توجيه37 تهمة ضده. اعتقال لم يمثل فيه العودة استثناء، فمع حملة الاعتقالات التي شهدتها المملكة عقب صعود بن سلمان لولاية العهد، والتي طالت أمراء من العائلة الحاكمة، وعلماء وشخصيات فكرية ودعوية عدّت رموزا مؤثرة، لا على الصعيد المحلي فقط، ولكن على المستوى الإسلامي بعمومه، كان منهم سلمان العودة نفسه، الذي يتابعه على موقع تويتر فقط ما يتجاوز ال14 مليون، والمتفاعل على مختلف منصات مواقع التواصل، وصاحب البرامج الدعوية التي تخاطب الشباب بشكل مباشر، كما طالت الاعتقالات شخصيات مثل الدكتور علي العمري وعوض القرني وعلي بادحدح ومحمد موسى الشريف وغيرهم الكثير.


وعلى الرغم من استناد الدولة السعودية تاريخيا على الشرعية الدينية في قيامها، واهتمامها بما يمكن أن يسمى بـ “الطبقة الدينية”، بدءا من تحالفها مع محمد بن عبد الوهاب في الدولة السعودية الأولى، وصولا لمحمد آل الشيخ في الدولة السعودية الثالة كاستمرار للتحالف مع الوهابية، إلا أن دور السلطة الدينية في المملكة تمثل تاريخيا بتبعيتها للسلطة السياسية، لتنال بذلك الطبقة الدينية “الوهابية تحديدا” شرعية التغلب والقوة، كما زادت الشرعية الدينية للسعودية بحيازتها للأماكن المقدسة، التي شكلت وإن بصورة رمزية، عاملا هاما في شهرة دعاة المملكة وتأثيرهم الواسع.

إلا أن تلك الشرعية التي اكتسبها التيار الديني، كان مرتبطا تاريخيا بمسار السلطة، ليصبح تحول مسار التيار الديني، أو بصورة أدق عدم تبعيته المطلقة، مطلقا إنذارا خطِرا للسلطة فيما يرتبط بكل نفس معارض، خصوصا حينما يتصل بالشأن الديني، إلا أن القصة التي يشهدها عصر بن سلمان تبدو أكثر جذرية عن سابقاتها، إذ شكل الصمت، لا المعارضة، بحسب المتابعين تهمة يمكن أن يُسجن وفقا لها رجال الدين، وهذا ما اتضح في حملة الاعتقالات التي شنها بن سلمان بصورة واسعة تجاه أشخاص لم يبد منهم معارضة معلنة، وبدء النيابة العامة بتوجيه مطالباتها نحو إعدام عدد منهم، ليشكل الحدث صدمة لكثير من المراقبين والمتابعين. علاقة السياسي بالديني تلك مرت بمراحل عدة، وصولا إلى اليوم. لذلك، تستدعي هذه التحولات البحث في تاريخ العلاقة بين الأسرة الحاكمة السعودية والمؤسسة الدينية الوهابية، واستعراض تحولات هذه العلاقة وصولاً إلى اللحظة الراهنة، ومحاولة استشراف مآلاتها المستقبلية!

تاريخ من الاضطراب
حين اجتاح نظام الرئيس العراقي السابق صدام حسين الكويت عام 1990، قامت لجنة من العلماء -يترأسها المفتي الأكبر الشيخ عبد العزيز ابن باز- بإصدار فتوى تجيز السماح بنشر القوات الأمريكية على الأراضي السعودية أثناء تلك الحرب، وذلك لإرغام القوات العراقية على الخروج من الكويت، كانت تلك الفتوى بمثابة الغطاء الشرعي الضروري لتمرير قرار التحالف مع القوات الأمريكية والذي كان من الممكن النظر إليه بوصفه تفريطاً في صلب مقومات العقيدة المرتكزة على مبدأ الولاء والبراء[1]. ليست هذه الحالة الوحيدة التي تُبرز الدور الذي لعبته المؤسسة الدينية الوهابية في النظام السياسي السعودية، فحتى عندما يتعلق الأمر بقضايا الأمن الوطني ونظام الحكم الداخلي كانت الدولة بحاجة إلى تبرير شرعي من المؤسسة الدينية الوهابية وذلك إذا ما أرادت ألا تنتقص من شرعية قراراتها!

إن الأمثلة على السلطة التي حازتها المؤسسة الوهابية من الكثرة بمكان بحيث يصعب حصرها، حتى أن الملك المؤسس عبدالعزيز عندما أراد استدخال اللاسلكي إلى المملكة، سعى للحصول على موافقة شرعية من العلماء، وحين أفتى هؤلاء بتحريم استخدام المذياع والتلغراف قام الملك بمنع استخدامه لفترة من الزمن[1]. وقد لعبت المؤسسة الدينية كذلك دوراً هاماً في الصراع على السلطة الذي نشب بين الملك سعود وشقيقه فيصل، حيث كانت لها الكلمة الفصل حين قام مفتي المملكة الشيخ محمد بن ابراهيم آل الشيخ بإصدار فتوى بخلع الملك سعود وخلافة شقيقه فيصل مكانه![2]

إلا أن هذه السلطة التي حازتها المؤسسة الدينية الرسمية في السعودية ستتقلص كثيراً منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، والتي وُجهت أصابع الاتهام فيها إلى الأيديولوجيا الوهابية بوصفها المحرك الرئيس للعِداء ضد الغرب، ومنذ ذلك الحين ستأخذ السلطة السياسية السعودية المبادرة بالتحلل من الأعباء التي أورثتها إياها الأيديولوجيا الوهابية وذلك عبر قيامها بتغيير المناهج التي كانت تحمل الفكر الوهابي[3]، ولكن دون الذهاب بعيداً بالقطع معها


لكن التطورات الأخيرة التي تشهدها المملكة السعودية تنبئ بقرب إشهار الطلاق بين المؤسسة السياسية (آل سعود) والمؤسسة الدينية (الوهابية)، فبعد سلسلة من القرارات التي طالت تغيير العديد من الأوضاع الاجتماعية التي كرستها المؤسسة الوهابية، كالسماح للمرأة بالقيادة، والحد من نفوذ هيئة الأمر المعروف والنهي عن المنكر، جاءت تصريحات ولي العهد الأخيرة المتعهدة بمحاربة الأفكار المتطرفة والقضاء عليها، وفتح بلاده على الوسطية والاعتدال، لتضع التساؤلات حول مستقبل العلاقة بين الأسرة الحاكمة والمؤسسة الدينية في السعودية!

مدخل لفهم العلاقة بين الديني والسياسي
في كتابه الذي حمل عنوان “الدولتان: الدولة والمجتمع في الغرب وفي ديار الإسلام”، يقوم المفكر الفرنسي برتران بادي برصد وتأريخ المسار الطويل لولادة الحداثة السياسية، والنماذج المختلفة لأنماط التحديث السياسي، وذلك تبعاً للعلاقة بين السلطة السياسية والسلطة الدينية وتحولات[4].
يشير بادي إلى أن مسارات التحديث السياسي كانت قد أفضت إلى استقلال المجال السياسي عن الديني، فبعد أن كان “المجال السياسي قد اعتبر في بعض الأحوال خاضعاً وتابعاً للمجال الديني في العصور الوسطى”، جاءت العصور الحديثة لتحمل معها المشروع التنويري القائم على تحرير المجال السياسي من هيمنة المجال الديني بل وإخضاع هذا الأخير لسيادة السلطة السياسية[4]!

وإذا ما نظرنا في التجربة التاريخية الإسلامية تحديداً، فنجد أن طبقة العلماء كانت قد شكلت -كما يشير إلى ذلك المفكر الأمريكي نوح فيلدمان في كتابه “سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها”- “الكابح الوحيد والمهم لسلطة الحكام”، وذلك باعتبارهم “حماة الشرع والمخولون بتفسيره”، الأمر الذي أورثهم مكانة مميزة في منظومة الحكم الإسلامي التقليدية.

وهكذا فقد احتوى ذلك النظام “على مقدار من التوازن المعنوي بين السلطة السياسية من جهة وطبقة العلماء المفسرة للشرع والحامية له من جهة أخرى”[5]، واستمر الأمر على هذا الحال إلى أن جاءت حقبة التحديث العثمانية – والتي عرفت بمسمى التنظيمات- والتي قلبت العلاقة بين السلطة السياسية وطبقة العلماء رأسا على عقب!

فأدى التحديث العثماني -والذي كان يستهدف تحقيق إصلاحات إدارية في المجالات العسكرية والاقتصادية والقضائية- إلى “ابتكارات قانونية ودستورية، تشمل الأولى: التقنين؛ وهو ما يعني اختزال مضمون الشريعة في قواعد، وتشمل الفئة الثانية: وضع المؤسسات، أي إنشاء هيئات مؤسساتية لم تكن موجودة (البرلمانات) وإدماجها في النظام الدستوري الذي كان قائماَ”[1].

بالمجمل، أفضت تلك الإجراءات التحديثية على النظام السياسي إلى “إزاحة طبقة العلماء وتدميرها، من دون أن تخلف وراءها مؤسسة أو كيان اجتماعي قادر على تحقيق التوازن مع السلطة السياسية كما كانت تفعله طبقة العلماء في الماضي”[1]، إلا أن النموذج السعودي -كما يشير فيلدمان- كان قد مثّل استثناء على هذا المسار الذي طال معظم الدول التي كانت تتبع الدولة العثمانية!

النموذج السعودي: التحالف بين (الشيخ) بن عبد الوهاب و(الأمير) وبن سعود
“العرب لا يحصل لهم الملك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم من الدين على الجملة؛ والسبب في ذلك أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرياسة فقلما تجتمع أهواؤهم‏.‏ فإذا كان الدين بالنبوة أو الولاية كان الوازع لهم من أنفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم”

من المعلوم أن تاريخ نشأة الدولة السعودية الأولى عام 1744 يرجع إلى التحالف الذي قام بين شخصيتين هامتين هما: محمد بن سعود، مؤسس العائلة الحاكمة، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، أحد أكثر العلماء تأثيراً في التاريخ الإسلامي الحديث، وقد “شكلت العلاقة بين الرجلين أغلب مسار مستقبل التاريخ السعودي”.

كان بن سعود أحد أبرز القادة القبليين والعسكريين في عصره، ورغم ذلك فقد كان من الممكن أن يبقى ” شخصية مغمورة لو لم تتفتق عبقريته السياسية عن التحالف مع حركة محمد بن عبد الوهاب للإصلاح الديني”[1]. حمل بن عبد الوهاب مشروعاً إصلاحياً ذا طابع سلفي يسعى إلى تحرير الإسلام مما اعتبره تراكم العادات الخاطئة والبدع والخرافات المضللة، والعودة به إلى نقاء العقيدة التي كان عليها السلف الصالح.

أتاحت هذه الدعوة الإصلاحية المجال أمام القوة السياسية العسكرية التي امتلكها بن سعود لإرساء دعائم سلطة واسعة على شبه الجزيرة العربية، مضفيةً عليها الشرعية اللازمة التي تمنحها الاستمرارية والحياة، وعوضاً عن أن تقوم هذه السلطة بمجرد إصلاحات وترتيبات ثانوية قصيرة المدى، فقد كان “الجمع بين الوهابية والقوة السعودية قادراً على إقامة حكم دائم!”[1]

لم تتوقف هذه العلاقة عند وفاة الرجلين وانتهاء الدولة السعودية الأولى، حيث ترك كل منهما عائلة حريصة على مواصلة الأدوار في هذه الشراكة بين الأمراء والعلماء. وتم تحويل تلك الشراكة إلى علاقة مؤسساتية مستمرة، “فالعلاقة بين آل سعود وآل الشيخ (كما كانت تسمى عائلة بن عبد الوهاب) بعد الدولتين السعوديتين لتصبح في النهاية القوة التي تضفي الشرعية وتقف وراء الدولة السعودية الحديثة”[1].

سرعان ما سيقوم الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -مؤسس الدولة السعودية الثالثة والحالية- بتجديد وإحياء هذا الحلف التاريخي بين أسرته وأسرة الشيخ بن عبدالوهاب، وقد أخذ التحالف بين السلطة السياسية والسلطة الدينية شكل المصاهرة هذه المرة، حيث تزوج الملك عبدالعزيز من ابنة الشيخ عبدالله بن عبداللطيف آل الشيخ، الذي كان يعد شيخ علماء المذهب الوهابي حينها[6].

لم يكفّ الملك المؤسس عبدالعزيز عن التأكيد على أهمية ودور التحالف مع المذهب الوهابي لإقامة الدولة السعودية التي بنت شرعيتها في الأساس على ظهر الدعوة الوهابية، ومن هنا كانت مقولته الشهيرة التي خاطب بها القبائل الداعمة له، حيث قال” ما هو بخافٍ عليكم ( ليس بخافٍ عليكم ) أولا نشأة هذا الأمر وتقويمه من الله، ثم أسباب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأوائلنا رحمهم الله، وما جرى على المسلمين من اختلاف ولايتهم مراراً، وكلما اختلف الأمر وشارف على نقض دين الله وإطفاء نوره، أبى الله فأخرج من الحمولتين (آل سعود وآل الشيخ) من يقوم بذلك”[6]

في المقابل، لم يتوان علماء الوهابية في دعم الملك عبدالعزيز وحشد كافة الإمكانات الرمزية والمادية لنصرة سلطته في سبيل إقامة الشرع والدين الذين كانوا هم مفسروه والقائمين عليه، وقد كتب علماء الوهابية إلى غالبية شيوخ الجزيرة يحثونهم على المسارعة والمبادرة لنصرة الملك عبدالعزيز، ومن ذلك كانت الرسالة التي كتبها الشيخ محمد بن عبداللطيف آل الشيخ والتي جاء فيها ” فالله الله في المبادرة والمسارعة، فإن الله يحب من عباده أن يسارعوا إلى ما أمرهم الله به، وإذا استنفر الإمام الرعية؛ كان الجهاد فرض عين على كل أقدره الله عليه… فلا يتخلف عن الجهاد إذا دعي إليه إلا منافق معلوم النفاق، فالحذر الحذر من الإصغاء إلى المخذلين والمثبطين، وما يلقونه من الشكوك والريب، وإساءة الظن بأهل الدعوة الإسلامية”[6]

لقد كانت الدعوة الوهابية إذا عصب السلطة السياسية وقوامها، وهو ما أدركه الملك عبد العزيز الذي وصف مقاتليه العقائديين للرحالة البريطاني جون فيليبي قائلاً ” إنه يكفي أن أصدر النداء؛ ليهب إلى القتال تحت رايتي ألوف، من بيشة وحتى نجران، ومن رنية إلى تثليث، ليس فيهم من لا يحب الموت من أجل عقيدته، وكلهم يؤمنون أن الفرار من الزحف يدخلهم النار”[6]

وعلى هذا النحو، أسس هذا التحالف بين الشيخ والأمير نمطاً من الحكم يقوم على توزيع السلطة بينهما، فبالإضافة إلى اختصاصهم بالوظيفة الدينية والتي تأتي في صلبها العملية التشريعية التي احتكروها بوصفهم القائمين على الشرع والمفسرين له، لم يكن آل الشيخ “مجرد مضفي شرعيةٍ لاحق، بل جزءاً من القوة الكبيرة التي جاءت بآل سعود إلى السلطة في المقام الأول. والعلماء السعوديون أكثر من مجرد علماء، إنهم فاعلون وحلفاء قبليون تقريباً لآل سعود، وبطريقة ليست عديمة الأهمية، يعد هؤلاء فعلا جزءاً من الطبقة الحاكمة”[1].

لكن موازين القوى بين الطرفين ستتعرض لاختلال فادح نتيجة للفائض النقدي الهائل الذي سيوفره البترول لخزينة الدولة السعودية، والذي سيسمح منذ ذلك الحين بإقامة نظام اقتصادي ريعي يكون فيه الأمير صاحب السلطة الفعلية!

فائض البترول واختلال موازين القوى بين الأمير والشيخ

بدايات اكتشاف البترول في شبه الجزيرة العربية 1933 (مواقع التواصل)

حين أخذ ابن سعود بالتمدد في تلك المساحات الصحراوية الشاسعة في أرض الجزيرة العربية، لم يخطر على ذهنه قط أن هذه الفيافي القاحلة تخبئ بين طياتها ثروات هائلة؛ ستكون بعد ذلك المورد الأساس الذي تستند عليه الدولة والذي سيدر على خزينتها أموالاً طائلة!

ساهم النفط في إعادة بناء الاقتصاد السعودي على أساس ريعي، حيث ستمنح عائدات البترول الدولة القدرة على الإنفاق على بعض فئات المجتمع بسخاء، وهو ما سيمكنها بالمجمل من خلق نظام محاباة واختراق الكثير من البنى الاجتماعية وبخاصة البنى القبلية والدينية.

لم تسلم طبقة العلماء من تأثيرات النظام الريعي عليها، حيث يمكن للمرء أن يخمن ” بأن قوة الدولة الخارقة في خلق اقتصادات وحوافز لطبقة العلماء تسمح لها بابتلاع الدور المستقل الذي لطالما اضطلعوا به”[1]، إلا أن منظومة الحوافز والمحاباة واستمالة العلماء ليست وحدها التي منحت السلطة السياسية تفوقاً على نظرائها من العلماء.

إن تأثير مردودات النفط لا تكمن في العلاقة الثنائية بين الأمراء والعلماء، بل في استدخال العنصر الثالث في هذه العلاقة وهم المحكومين الذين يجري المنافسة على تمثيلهم واستقطابهم بين العلماء والأمراء، ولما أتاحت مردودات النفط الهائلة على إقامة نظام ريعي تكون السلطة السياسية فيه هي المنفقة على المجتمع، استغنت السلطة بذلك عن وساطة العلماء في علاقتها مع الشعب.

وهكذا؛ وبفضل فائض البترول؛ وجدت السلطة نفسها في غنى عن وساطة طبقة العلماء في علاقتها بالشعب، وهو ما أدى إلى ” أن قدرة العلماء على حماية سيادة الشرع في الدولة السعودية المعاصرة أضعف بكثير مما كانت عليه في الدولة الاسلامية التقليدية، والاختلاف هو أن العلماء أقل فائدة بكثير للحكام مما كانوا عليه في دولة ليست لها ثروة نفطية هائلة” [1].

إضافة إلى الدور الذي لعبه النفط في إضعاف سلطة العلماء وتقليص أدوارهم، كان لأحداث الحادي عشر من سبتمبر ومارافقته من هجمة إعلامية موجهة تجاه الوهابية، أثراً كبيراً في تحجيم الدولة السعودية للخطاب الوهابي، حيث تم الربط في الإعلام الغربي والعالمي بين الممارسات والمضامين الخطابية للمدرسة الوهابية والتوجهات السلفية الجهادية![7]

ففي يناير عام 2002 كتبت الإيكونوميست “إن الحالة قد انقلبت من ترحيب سعودي شعبي ورسمي (التي كان عليها الوضع في حرب الخليج 1990) إلى من المقت والكره والعداء.. حتى أن بعض الوثائق الأمريكية تعد السعودية أشد خطراً على مصالحها وأمنها ونفوذها من نظام صدام حسين الذي شنت عليه حرباً غير مسبوقة في التاريخ من حيث قوة التحالف والأسلحة المستخدمة والحصار الذي استمر منذ عام 1991 وحتى الآن” [7]

طالت التعديلات التي أجرتها السعودية -نتيجة لضغوط أميركية- على المناهج الدينية حذف الآيات المتعلقة بالولاء والبراء، والتي ترى فيها الحكومة الأمريكية أنها تمثل عداءً لها (رويترز)

ونتيجة لهذه الضغوط التي تمت ممارستها على المملكة السعودية، رضخت هذه الأخيرة لمطالب عديدة على رأسها جاء مطلب تعديل المناهج الدينية والثقافية التي كانت تحمل الطابع الوهابي، والتي كانت مسؤولة -بحسب الإدارة الأمريكية- عن خلق وتنشئة أجيال يحملون ثقافة سياسية معادية للغرب وثقافته الحديثة!

طالت هذه التعديلات حذف الآيات المتعلقة بالولاء والبراء، والتي ترى فيها الحكومة الأمريكية أنها تمثل عداءً لها، وإدراج “المفكر الأميركي المعروف بمعاداته للإسلام صموئيل هنتنغتون صاحب نظرية صراع الحضارات في سابقة جديدة في تاريخ المناهج السعودية، بالإضافة إلى عدد من المفكرين الغربيين الآخرين”. كما تعرضت المناهج المعدلة لأول مرة “للثقافة المدنية كمؤسسات المجتمع المدني والعولمة وحقوق الإنسان وحوار الحضارات”.[3]

وأيا يكن الأمر، فقد ساهمت عدة عوامل محلية ودولية في تحجيم وتقليص نفوذ المؤسسة الدينية الوهابية، لكن دون أن تذهب السلطة إلى حد القطيعة معها، ودون أن يفقدوا بشكل أساسي مكانتهم كشركاء في نظام الحكم.

العهد الجديد: هل نشهد أفول الوهابية؟

وسط تصفيق وتهليل حار من قبل الحضور، أعلن ولي عهد المملكة العربية السعودية، الأمير محمد بن سلمان، في المؤتمر الاقتصادي الذي حمل اسم “مبادرة الاستثمار في المستقبل”، عن تعهده بتقديم إصلاحات اجتماعية واسعة سيكون من شأنها تحويل المجتمع السعودي وجعله “طبيعياً، متسامحاً، وطيباً”

وأشار بن سلمان إلى أن بلاده عانت خلال العقود الماضية من سيطرة ماوصفها “بالمذاهب الصارمة التي حكمت المجتمع”، مشيراً إلى أنه قد آن الآوان “لمحاربة هذه الأفكار والقضاء عليها فوراً”، قائلا أن بلاده تريد أن تعيش “حياة طبيعية تترجم مبادئ ديننا السمح وعاداتنا وتقاليدنا الطيبة، ونتعايش مع العالم ونساهم في تنمية وطننا والعالم”.[8]

وقبل ذلك، كانت المملكة قد شهدت سلسلة من القرارات التي تشير إلى تبرمها من االتوجهات الوهابية المحافظة اجتماعياً، فبعد أن صدرت الأوامر الملكية بتعديل قوانين تمكن المرأة من قيادة السيارة، والحد من صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، جاء الإعلان عن “إنشاء مجمع للحديث النبوي الشريف، سيكون الهدف منه هو “تنقية الحديث النبوي مما علق به من نصوص وتفسيرات تبرر القتل والإرهاب، في مراجعة اعتبرها متخصصون أنها بمثابة الثورة على أسس السلفية الوهابية التي تبنتها العائلة المؤسسة والمالكة في السعودية منذ نحو قرن”.[8]


وإذا كان من المستبعد قيام المملكة بالتخلي عن الوهابية، كما أشار إلى ذلك الباحث في الجمعية الألمانية للسياسة الخارجية سبيستيان زونس، حيث يرى أنه “لولا الدعم الديني من الوهابيين لما حصلت العائلة المالكة على السلطة السياسية. وقد استمر هذا التحالف (بين الوهابية والعائلة المالكة) لعقود. لذلك فمن الصعب للعائلة المالكة الاحتفاظ بالسلطة السياسية إذا فقدت دعم رجال الدين. وبالتالي فإن الأمر لا يعني القضاء على الوهابية بل إصلاحها بشكل جذري”[9].

إلا أن التوجهات الأخيرة التي تقودها المملكة، والتي أعلنت النيابة العامة السعودية توجيه حزمة تهم لعدد من المشايخ منهم سلمان العودة كما ذكرنا وعلي العمري، ومن ثم المطالبة بإعدامهم، تقود لقراءة أكثر توجها نحو سعودية علمانية، يمثل المشايخ فيها خطرا على التحولات العلمانية التي تستمر باضطراد، ولا يتم ذلك إلا بتجفيف منابع الصبغة الدينية التي لونت المملكة على امتداد تاريخها.

هذه التوجهات الأخيرة لا يمكن النظر إليها وفهمها إلا في سياق ما صرح به السفير الإماراتي في واشنطن يوسف العتيبة، الذي قال أن “ما تريده الإمارات والسعودية والأردن ومصر والبحرين للشرق الأوسط هو “حكومات علمانية” [10]، بمعنى أنها تأتي في سياق علمنة النظام السياسي السعودي.

وأيا يكن الأمر، وسواء انتهت هذه الإجراءات إلى القطيعة المباشرة والصريحة بين الأسرة الحاكمة في السعودية وبين النهج الوهابي والتيار الديني بعمومه، أو إلى قطيعة ضمنية تُبقي الوهابية كجسد بلا مضمون أو روح، فإنه من المؤكد الآن أن العهد الجديد سيشهد تحولا جذريا في العلاقة بين الأمراء وحلفائهم القدامى من شيوخ المذهب الوهابي، وكل ما يرتبط بالشخصيات الدينية، ورغم ذلك، فإن هناك شخصيات، كما عائض القرني، ستخرج للمشهد بين الحين والآخر، لشرعنة هذه التغيرات المُتسارعة.
الجزيرة

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى