أُسْلُوبُكَ شَفِيعُكَ

أُسْلُوبُكَ شَفِيعُكَ

اَلْكَاتِبَةُ : – هِبَةُ أَحْمَدَ الْحَجَّاجِ

مِنْ فُنُونِ الْأَدَبِ اخْتِيَارُ اللَّفْظِ الْمُنَاسِبِ ، حَتَّى قَالُوا : « لِكُلِّ مَقَامٍ مَقَالٌ » . فَيُقَالُ لِلْمَرِيضِ ” مُعَافًى ” ، وَ لِلْأَعْمَى ” بَصِيرٌ ” ، وَ لِلْأَعْوَرِ ” كَرِيمُ الْعَيْنِ ” .

الْأُسْلُوبُ غَالِبٌ ؛ الطَّرِيقَةُ الَّتِي يُحَدِّثُكَ فِيهَا إِنْسَانٌ ، الطَّرِيقَةُ الَّتِي يُخَاطِبُكَ فِيهَا إِنْسَانٌ ، الطَّرِيقَةُ الَّتِي يُحِبُّكَ فِيهَا إِنْسَانٌ ، الطَّرِيقَةُ الَّتِي يَشْرَحُ لَكَ فِيهَا إِنْسَانٌ ، الطَّرِيقَةُ الَّتِي يَلْتَفِتُ فِيهَا إِلَيْكَ إِنْسَانٌ . النُّبْلُ كُلُّهُ فِي الطَّرِيقَةِ وَالْأُسْلُوبِ .

مقالات ذات صلة

فَأُسْلُوبُكَ شَفِيعُكَ فِي أَوْقَاتٍ كَثِيرَةٍ . صَدِّقْنِي إِذَا كَانَ أُسْلُوبُكَ خَلَّابًا فَسَوْفَ تَفْتَحُ لَكَ الْأَبْوَابَ الَّتِي لَمْ تُصْنَعْ بِقَفْلٍ وَمِفْتَاحٍ أَصْلًا ! أُسْلُوبُكَ يَجْعَلُكَ تَحْصُلُ عَلَى مَا تُرِيدُ ، حَتَّى لَوْ أَظْهَرَ لَكَ الْآخَرُ رِدَّةَ فِعْلٍ مُتَجَهِّمَةً ، هُوَ يُكَابِرُ أَوْ مُتَشَكِّكٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَادٍ ، وَالْحَقُّ أَنَّهُ يُضْمِرُ التَّقَبُّلَ الْكَبِيرَ لِتَعَامُلِكَ .

تَسْتَطِيعُ الْكَلِمَاتُ أَنْ تُحَرِّكَ بَعْضًا مِنْ مَشَاعِرِنَا ، تَسْتَطِيعُ فَقَطْ بِأُسْلُوبِكَ فِي سَرْدِ الْكَلِمَاتِ أَنْ تُحْدِثَ تَغَيُّرًا فِي قُلُوبِ الْبَعْضِ .

لَكَ طُرُقَكَ وَأَسَالِيبُكَ ، وَلَوْ كُنْتَ فِي بَحِيرَتِكَ سَمَكَةً ، فَأَنْتَ الطَّعْمُ وَالسِّنَارَةُ وَالصَّيَّادُ ، وَالْقَارَىءُ الْحَذِقُ ، وَالْحَضْنُ وَالْمَأْوَى . .

فَمِنْ الْقِصَصِ الْقَدِيمَةِ ، يُرْوَى أَنَّ هَارُونَ الرَّشِيدَ قَدْ رَأَى فِي بَيْتِهِ ذَاتَ مَرَّةٍ حُزْمَةً مِنْ الخَيْزُرَانِ ، فَسَأَلَ وَزِيرَهُ الْفَضْلَ بْنَ الرَّبِيعِ : مَا هَذِهِ ؟

فَأَجَابَهُ الْوَزِيرُ : عُرُوقُ الرِّمَاحِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ .

لِمَاذَا لَمْ يَقُلْ لَهُ : إِنَّهَا الخَيْزُرَانُ ؟

لِأَنَّ أُمَّ هَارُونَ الرَّشِيدِ كَانَ إِسْمُهَا ” الخَيْزُرَانَ ” ، فَالْوَزِيرُ يَعْرِفُ مَنْ يُخَاطِبُ ؛ فَلِذَلِكَ تَحَلَّى بِالْأَدَبِ فِي الْإِجَابَةِ .

وَ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ سَأَلَ ابْنَهُ مِنْ بَابِ الِاخْتِبَارِ : مَا جَمْعُ مِسْوَاكٍ ؟

فَأَجَابَهُ وَلَدُهُ بِالْأَدَبِ الرَّفِيعِ : ( ضِدَّ مَحَاسِنِكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ) .

فَلَمْ يَقُلْ الْوَلَدُ : ( مَسَاوِيكُ ) لِأَنَّ الْأَدَبَ هَذَّبَ لِسَانَهُ ، وَحَلَّى طِبَاعَهُ .

وَيُقَالُ إِنَّ أَحَدَ الْمُلُوكِ رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ أَسْنَانَهُ تَكَسَّرَتْ كُلُّهَا فَدَعَا أَحَدَ مُفَسِّرِي الْأَحْلَامِ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْمَلِكُ رُؤْيَاهُ فَقَالَ لَهُ الْمُفَسِّرُ : الْأَمْرُ مُؤْلِمٌ يَا مَوْلَايَ هَذَا مَعْنَاهُ أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِكَ سَيَمُوتُونَ وَتَبْقَى أَنْتَ ، حِينَهَا تَغَيَّرَ وَجْهُ الْمَلِكِ وَغَضِبَ وَأَمَرَ بِسَجْنِ هَذَا الْمَعْبَرِ .

ثُمَّ جَاءُوا بِمُفَسِّرٍ ثَانٍ وَقَصَّ الْمَلِكُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لَهُ الْمُفَسِّرُ : مُبَارَكٌ أَيُّهَا الْمَلِكُ ، سَتَكُونُ أَطْوَلَ أَهْلِكَ عُمْرًا . فَرِحَ الْمَلِكُ فَرَحًا شَدِيدًا وَأَجْزَلَ لَهُ الْعَطَايَا .

وَ لَمَّا سُئِلَ الْعَبَّاسُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَ عَنْ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ :

أَنْتَ أَكْبَرُ أَمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ .

فَأَجَابَ الْعَبَّاسُ قَائِلًا : ( هُوَ أَكْبَرُ مِنِّي ، وَ أَنَا وُلِدْتُ قَبْلَهُ ) .

مَا أَجْمَلُهَا مِنْ إِجَابَةٍ فِي قِمَّةِ الْأَدَبِ لِمَقَامِ رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَ السَّلَامُ .

إِخْتِيَارُ الْأَلْفَاظِ قِيمَةٌ ضَاعَتْ لِلْأَسَفِ فَى مُجْتَمَعَاتِنَا ، وَ أَصْبَحَ بَعْضُنَا يُبَرِّرُ ذَلِكَ لِنَفْسِهِ بِبَعْضِ الْكَلَامِ مِثْلَ : أَنَا صَرِيحٌ ، وَ أَنَا أَتَكَلَّمُ بِطَبِيعَتِي ، أَوْ أَنَّهُ بِذَلِكَ يَبْتَعِدُ عَنْ النِّفَاقِ .

وَ اَلْحَقِيقَةُ أَنَّ هُنَاكَ فَرْقًا كَبَيِيِيرًا جِدًّا بَيْنَ النِّفَاقِ ، وَ مُرَاعَاةِ مَشَاعِرِ الْآخَرِينَ ، وَ بَيْنَ الصَّرَاحَةِ وَ الْوَقَاحَةِ .

يَجِبُ أَنْ نَعِيَ جَيِّدًا أَنَّ بَيْنَ كَسْرِ الْقُلُوبِ وَ كَسْبِهَا

خَيْطًا رَفِيعًا اسْمُهُ ” الْأُسْلُوبُ ” .

وَبَيْنَمَا أَنَّ كَذَلِكَ أَقُومُ بِكِتَابَةِ هَذَا الْمَقَالِ أَتَى أَخِي الصَّغِيرُ الْمُلَقَّبُ بِالْمُزْعِجِ وَقَالَ : – عَنْ مَاذَا تَكْتُبُ أَيُّهَا الْكَاتِبُ الْعَظِيمُ ؟ اتْحِفْنَا بِالْكَلِمَاتِ الْمُنَمَّقَةِ وَحِكْمَتِكَ الْفَذَّةِ .

نَظَرْتُ إِلَيْهِ مُبْتَسِمًا وَقُلْتُ : – حَسَنًا ، أَيُّهَا الْوَلَدُ الَّذِي يَقْطُرُ لِسَانُهُ عَسَلًا ، أَكْتُبُ مَقَالًا بِعُنْوَانِ : – أُسْلُوبُكَ شَفِيعُكَ .

نَظَرَ إِلَيَّ وَأَمْعَنَ النَّظَرَ قَلِيلًا وَأَخَذَ يُفَكِّرُ ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ قَائِلًا : – الْأَمْرُ بَسِيطٌ جِدًّا .

مِثْلُ جُمْلَةٌ مِنْ فِعْلٍ وَ فَاعِلٍ وَ مَفْعُولٍ بِهِ .

مَثْلُ أَنْ أَقُولَ ” يَرْتَاحُ قَلْبِي لَكَ “

وَلِلْأَمَانَةِ لَمْ أَفْهَمْ عَلَيْهِ !

نَظَرَ إِلَيَّ مُفَكِّرًا وَقَالَ : – أَعْتَقِدُ انْكَ أَنْهَيْتَ الْمَقَالَ نَظَرِيًّا ، مَا رَأْيُكَ بِتَطْبِيقِ الْمَقَالِ عَمَلِيًّا ؟

حَسَنًا أَتْرُكُهُ عَلَيَّ ، لَا تَقْلَقْ يَكْفِيكَ مَا اسْتَنْزَفَهُ الْمَقَالُ مِنْ جُهْدٍ وَتَفْكِيرٍ .

اتْرُكَ الْأَمْرَ لِي فَقَطْ شَاهِدْنِي .

انْظُرْ كَيْفَ سَأَطْلُبُ مِنْ أُمِّي الطَّعَامَ .

قَالَ لَهَا : أُمِّي الْجُوعُ كَافِرٌ وَأَنْتِ الْإِيمَانُ يَا بِنْتَ الْأَكَابِرِ .

كَانَتْ أُمِّي تَبْتَسِمُ وَتُحْضِرُ لَهُ الطَّعَامَ .

وَإِذَا أَرَادَ النُّقُودَ يَقُولُ لِأَبِي : يَابْنَ جَدِّي هَلْ أَمْسَيْتَ فَقِيرًا أَمْ أَنَّكَ تَسْتَلِذُّ بِفَقْرِيٍّ ؟ فَيَبْتَسِمُ أَبِي وَيُعْطِيهِ النُّقُودَ .

وَإِذَا أَرَادَ شَيْئًا مِنْ أُخْتِي الصَّغِيرَةِ قَالَ لَهَا : سَيِّدُ الْقَوْمِ خَادِمُهُمْ فَهَلْ لَكِ أَنْ تَكُونِي سَيِّدَتِي ؟

فَتُضْحَكُ أُخْتِي وَتُرَتِّبُ لَهُ حَوَائِجَهُ .

كَمَا قُلْتُ لَكُمْ تَسْتَطِيعُونَ بِأُسْلُوبِكُمْ الرَّاقِي أَنْ تُغَيِّرُوا الْوَاقِعَ !

وَالدَّلِيلُ أَمَامَكُمْ . .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى