كيف تَحَوَّلَ الأردنيون ضِدّ البرلمان ومع الحكومة ؟!/ د. حسين البناء

الدستور الأردني، وفي أحد أهم مواده، يُبيِّنُ أنَّ (النظام نيابيّ ملكيّ …)، والتقديم في اللغة يُفيدُ رغبة الراوي المُؤكدة بإبراز الأهمية. برغم ذلك فقد تم حَلّ البرلمان مرات عدة، وتم تعطيله و دعوته للانعقاد مرات أُخَر، حتى عام 1989 حيث عاد الانتخاب والمسير الدستوري الطبيعي له، بعد الأزمة الاقتصادية آنذاك و اشتراط (البنك الدولي) وجود (برلمانٍ عاملٍ) و أمور أخرى كذلك لقبول برنامج التصحيح الاقتصادي.

البرلمان في أصله هو مجلس نواب الشعب، ليمثل صوته و رغباته في هيكل السلطة، وليمارس دور التشريع لمواد الدستور و القوانين، و ليراقب أعمال السلطة التنفيذية و يدقق على قرارات الإدارة العامة، و ليضمن بأن سياسات الحكومة تعمل في ضوء مصلحة الشعب الذي انتخبه ليمثله.

لم يَعُد خافيًا على أحدٍ بأن (مراكز النفوذ) في هيكل السلطة (الظاهر والعميق للدولة) غير راغبةٍ في أن يتجاوز البرلمان أدوارًا مُعدَّة مُسبقًا ضمن سياقات تقليدية لا تُمكِّنه من الهيمنة على المشهد السياسي، تحت ذريعة (توازن السلطات) و كبح التغول.

بناءً على ما سبق وصفه، فقد تم تصميم (قوانين انتخاب) مُوَجِّهة بذاتها، بدءًا بقانون (الصوت الواحد) و مرورًا بقانون (الدوائر الوهمية) وانتهاءً بقانون (الدوائر الوطنية)، جميعها قادت إلى إضعاف (مجلس النواب) و تراجع دوره في الفعل السياسي.

مقالات ذات صلة

فمثلًا، قانون الصوت الواحد (المثير للجدل) أدى إلى توجيه هذا (الصوت الوحيد للناخب) إلى حاضنته الاجتماعية التقليدية، أي (العشيرة) وحرمان تشكيلات (كالأحزاب) منه، فكان أن تراجع الحضور الحزبي أمام تقدم ملحوظ للحضور القبائلي في البرلمان، هذا الأثر نجح في تحوير البرلمان إلى (مجلس خدمات مشتركة) إرضاءً للناخبين عوضًا عن دوره الحقيقي في الرقابة و التشريع. كل هذا كان أثرًا في المدی القريب.

أما على المدى البعيد، فقد استطاع (قانون الصوت الواحد) أن يُجزِّئ العشائر؛ حيث أن التنافس الداخلي في (زعامة العشيرة) الواحدة أدى إلى ترشح عدة شخصيات من ذات العشيرة مع الزمن، ليصطدم كل مترشح مع الآخر على تقاسم أصوات الناخبين من عشيرته، فيقع الخلاف الداخلي، فتنقسم العشيرة الواحدة على عدة اصطفافات بعدد المرشحين ذاتهم.

أما (الدوائر الوهمية) فقد تسببت (بنجاح أو رسوب) عددٍ من المترشحين، فقط لأنهم أساؤوا اختيار (دائرتهم الوهمية)؛ حيث أن حدة المنافسة تختلف من دائرةٍ لأخرى حسب (الثقل النوعي) لجملة المترشحين فيها، فقد ينجح مترشح في أحد الدوائر (بألف صوت مثلًا) بينما يفشل مترشح آخر بدائرة أخرى برغم تحصيله أضعاف تلك الأصوات!

أما (قانون الدوائر الوطنية)، فكان يُفتَرض منه إفراز قيادات اجتماعية على مستوى الوطن كله، لكنه عملانيًا مَكّن رجال الأعمال من توظيف عدد من (الزعامات التقليدية و الجهويات المحلية) وتمويلهم ليقوموا بجمع أصوات الناخبين (كل في دائرته المحلية) والتي في محصلتها تحقق (نسبة مئوية) أعلى من ضمن (مجمل أصوات المتنافسين) ليفوز بمقعد في (مجلس النواب).

جميع تلك التجارب نجحت في تقزيم دور (مجلس النواب) وبات واضحًا في آخر بضع دورات، بأن البرلمان بات معزولًا عن الشعب و توقعاته، حيث طغت ملامح (رجال الأعمال) و (الوجاهات المحلية) على المظهر السياسي المرغوب المحترف و القيادات الحزبية الوطنية.
عند ذلك شعر عامة الناس بالغُبن و ضياع تمثيلهم في هيكل سلطات الدولة، هذا الشعور دفع بالجماهير لأن تتخذ المبادرة في تمثيل نفسها بنفسها عن طريق الخروج إلى الشارع، فكانت (هبة رمضان) الشعبية هذا العام مدفوعةً بقانون (ضريبة الدخل) وأسعار المحروقات و الأزمة الاقتصادية.

خروج الناس إلى الشارع معناه فقدان الشعور بالتمثيل، الذي يُفترض أن يؤديه (مجلس النواب) فكانت أحد أبرز المطالب لاحقًا هو (حل البرلمان).

جاء بعد كل ذلك التكليف الملكي لتشكيل (حكومة د. عمر الرزاز) والذي أوقف تسعيرة المحروقات لذات الشهر، و وعد بسحب قانون الضريبة، و انتهاج طريق جديد قائم على التشاركية و الحوار في صنع القرار، فلاقي ذلك قبولًا شعبيًا واسعًا، لنجد بأن الجماهير رأت في شخص (الرزاز) مُنقذًا، في حين رؤيتهم للبرلمان مُخَذِّلًا لهم، وباتت تتعالى مطالب حل البرلمان بشكلٍ لافتٍ.

الدولة القوية تحتاج لحكومة قوية مُمَكَّنة، والحكومة القوية بحاجة لبرلمان قوي مُمَكَّن، والبرلمان القوي بحاجة لناخبين يملؤهم (الوعي والحس الوطني) المُتقدِّم على كل الانتماءات و التوجهات والمصالح الضيقة، هذا ما تعلمناه من الحراك الشعبي الوطني هذا العام، وهذا ما يُفَسِّر وقوف الناس مع الحكومة ضد البرلمان.

ليس هنالك صيغة مثالية لأي قانون انتخاب في العالم، ولكن هنالك صيغة ذات توجهات تقدمية أكثر. ماذا ستكون عليه تركيبة (مجلس النواب) لو أن نصفه كان للتمثيل الحزبي ونصفه الآخر لتمثيل الوطن كدائرة انتخابية واحدة، أو (دوائر واسعة بحجم المحافظة) مثلًا؟.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى