التعليم العالي وخيار الدولة الأردنية بين المال أو الأجيال

التعليم العالي وخيار الدولة الأردنية بين المال أو الأجيال
الأستاذ الدكتور أنيس الخصاونة
توسم الأردنيون كثيرا بالاستراتيجية الوطنية للموارد البشرية التي أنجزتها لجنة ملكية كلفت بمراجعة واقع التعليم بكافة مراحلة ،ومدى موائمة مخرجاته مع حاجات ومتطلبات سوق العمل ، والوقوف على أبرز التحديات التي تواجهه ، واقتراح الحلول لها.وقد حشدت هذه اللجنة لإنجاز هذه المهمة الضخمة ما ينوف عن مائتين وخمسين من المختصين من كافة قطاعات المجتمع ، حيث بذلت جهود كبيرة جدا على مدار عام ، وتم الخروج باستراتيجة للموارد البشرية تضمنت تشخيص للمشكلات والتحديات وحلول مقترحة لها.ما يهمنا هنا هو ذلك الجانب المتعلق بالتعليم العالي وسبل الحد من التراجع المؤسف في مستوى مخرجاته .
وفي الوقت الذي تضمنت الاستراتيجية محاور متعددة ذات علاقة بالقبول الجامعي ،والتمويل ، واستثناءات القبول وغيرها فقد حظي موضوع البرنامج الموازي بنقاش وجدل كبير تمخض عنه التوصية بضرورة إلغاء هذا البرنامج نظرا لإشارات الاستفهام الكبيرة والشكوك التي تحوم حول مدى دستوريته ، حيث يبيح هذا البرنامج لبعض الأردنيين ممن يملكون المال من اختيار تخصصات بعينها في حين يحرم مواطنين آخرين من هذا الخيار بسبب إمكاناتهم المادية الضعيفة ،ناهيك عن ولوج الجامعات في اعتماد معايير “القدرة على الدفع “بدلا من “القدرة على التعلم “كأساس لاختيار وقبول الطلبة والذي من شأنه أن يحول الجامعات إلى العمل كشركات تجارية بدلا من العمل على أسس علمية أكاديمية .
من جانب آخر فإن البرنامج الموازي الذي تم البدء به منذ عقدين من الزمن جاء لأسباب مادية بحتة وبسبب تراجع الدعم المالي الحكومي للجامعات.هذا البرنامج يسهم بلا شك في تقسيم المجتمع على أسس طبقية مادية يتمكن من خلالها من يملكون المال من تلقي تعليم بسوية أفضل من التعليم الذي يتلقاه من لا يملك المال.فالاغنياء بفضل ملائتهم المالية يختارون التخصصات التي يريدون ، ويذهبون ربما لأفضل الجامعات في الأمريكية والأوروبية ،ويتخرجون بقدرات ومؤهلات ومهارات يصعب منافستهم بها من قبل الطلبة من طبقة الفقراء الذين يضطرون لدراسة تخصصات قد لا يرغبون بها وقد لا تكون مطلوبة أصلا في سوق العمل .
إلغاء البرنامج الموازي يشكل اختبارا لمدى جدية الدولة الأردنية في تطبيق الإستراتيجية الوطنية للموارد البشرية التي تم إقرارها برعاية ملكية وتم التأكيد على أهمية الأخذ بتوصياتها ووضعها حيز التطبيق. كلفة إلغاء هذا البرنامج تصل إلى ما يقارب المائتين مليون دينار وهو المبلغ الذي تتقاضاه الجامعات من ريع هذا البرنامج . وقد ساورنا منذ بداية انخراطنا في إحدى لجان الاستراتيجية الوطنية للموارد البشرية بعض الشكوك حول مدى جدية الحكومة في تطوير التعليم العالي في الأردن وتسائلنا حول مدى التزام الحكومة في تغطية كلف تطوير التعليم والتعليم العالي ، وقد شاركنا وزير التعليم العالي والبحث العلمي الحالي الأخ والزميل الدكتور عادل الطويسي في المساهمة في إعداد هذه الاستراتيجية وها هو يحتل الموقع المتقدم في قيادة قطاع التعليم العالي فهل ما زال ملتزما بتبني وتنفيذ هذه الاستراتيجية التي أسهم في تطويرها وترأس أحد لجانها المهمة؟ أم أن الاستحقاقات السياسية للحكومة تتقدم على الاستحقاقات التعليمية والأكاديمية ؟ أم أن الحكومة التي تسلمت نسخة الإستراتيجية وتعهدت أمام الملك بتنفيذها صرفت النظر عن تطوير التعليم والتعليم العالي نظرا لبروز أولويات أخرى لديها؟
تطوير التعليم والتعليم العالي في الأردن قضية حيوية محورية ينبغي أن تتقدم على الكثير من أولويات الدولة ، ونحن نعتقد أن التعامل مع التحديات والإحتياجات التي يواجهها هذين القطاعين ينبغي أن يأخذ أولوية تنعكس من خلال الكلف والموازنات الحكومية المخصصة للتطوير والتحسين في سوية وجودة مدخلات ومخرجات التعليم .نأمل أن لا يكون هناك أية ضبابية أو حالة من عدم التأكد أو نكوص بخصوص الإلتزام الحكومي بتطبيق توصيات الاستراتيجية الوطنية للموارد البشرية بشكل عام وإلغاء البرنامج الموازي في الجامعات الرسمية على وجه الخصوص ، وإعادة النظر بسياسات القبول والإستثناءات علما بأن الكلفة المقدرة التي ينبغي أن تتحملها الحكومة في السنتين الأولى والثانية لإلغاء البرنامج الموازي لا تتجاوز (51) مليون دينار وهو مبلغ ليس ضخما قياسا مع النتائج الإيجابية المتوقعة على مستوى بناء الإنسان والتأثير الكبير المتمثل في الاستثمار بالأجيال المقبلة .
إن ما يواجه قطاعي التعليم والتعليم العالي في المملكة من تراجع يضع حكومة الدكتور هاني الملقي أمام تحدي كبير تستطيع إذا أرادت أن تحوله إلى فرصة ثمينة للتطوير من خلال تطبيق الإستراتيجية الوطنية للموارد البشرية واستغلال الجهد الهائل والجاهز الذي بذل لإعدادها ، فهل تقتنص هذه الحكومة هذه الفرصة وتصنع تاريخا مشرفا يشار له بالبنان في مجال تطوير التعليم أم أنها ستهدر الفرصة وتكون حكومة عابرة مثلها مثل حكومات جاءت وذهبت ولا يتذكر الأردنيون إنجازات لها سوى الوعود والتصريحات التي تدخل في باب علم الكلام وليس في باب علم الأفعال وصناعة الأجيال ؟؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى