ولدي ليس صورة على الجدار / محمد العداربة

ولدي ليس صورة على الجدار
كان فتى في مخيم الوحدات شرقي العاصمة عمان، يشبه الكثيرين، يعيش قصص الجيران وتفاصيلها اليومية يعرف مثلًا أن ابا محمود لا يحب “الملوخية” وعندما يشتهيها الأولاد يجب أن تُعد له زوجته شيئًا خاصًا وإلا سيجتاح أم “العيال” غضبًا وسبابًا لا ينتهي. يعرف خالد أيضًا أن ميساء جارتهم تحب خلدون وتسترق رؤيته كلما سنحت لها الفرصة …يعدها العاشق الكذوب بسلسلة ذهبية يكتب عليها اسمها وقلبين. يضحك خالد لأنه يعرف خلدون جيدًا فلا يملك ثمن علبة السجاير ويدخن”سلبطة”. عاش رغبات جارتهم المسكينة في أن ترزق بمولود، كان يسمع بكاءها ودعاءها في كل ليلة، وكان يؤمّن على دعائها مغرورق العينين. خالد لم يكن يحب سماع هذه القصص لأن فيه ما يكفيه، ولكن طبيعة المخيم وقرب والتصاق الجدران ببعضها توصل الصوت دون أن يسترق السمع. يتذكر موقفًا مضحكًا عندما ظل يصيح صغير الجيران لساعات وهو يطلب من أبيه شراء حذاء رياضي للمدرسة، وإذا بصوت جارنا من بعيد يستجدي: ” يا أخي بربك أن تشتري له الحذاء عندنا عمل غدًا ونريد أن ننام”.
مثل كل فتيان المخيم لا يهتم لنظرة الناس ولا إلى ما يقولون فيما يلبس أو يأكل لأنهم سواسية، فقر وحرمان … وسخط على اسرائيل. يعمل أبناء المخيم صغارًا في أعمال مختلفة في المخابز والدكاكين وورش الميكانيك في كل شيء… وفي اي شيء لو لزم الأمر. وخالد كان يحب العمل في المطاعم، حتى أثناء دراسته الجامعية كان يراه بعض زملائه في الجامعة مرتديًا بدلة سوداء ويقدّم الطعام في مطعم الأردن وسط العاصمة “عمّان” فيشعرون بالحرج الشديد من رؤيته، أما هو فالأمر لا يزيده إلا كرهًا في اسرائيل…..ولا ضير.
انتهت حرب الخليج، وأصاب الناس شعورًا باليأس والهوان. بكاء على القدس، وعويل على بغداد. أمّا خالد فزهد في الدنيا وحتى في الكلام، لم يعلق على الحرب ولم يحلل الهزيمة ولم يهلل للمنتصر ولم يشمت في الخاسر….. تغير كثيرًا. عزم أمره وانتهى….العدو ليس ببعيد عن الوحدات. … يودّع أمه وأخوته الصغار ويمضي….على أمل لقاء في مكان بعيد عن المخيم.
يحمل رشاشه وقنابل يدوية ويجلس القرفصاء محتجبًا وعيناه تجوب المدى، لقد ولج ساعة الصفر….أخيرًا!! شهورٌ مضت في التدريب بمنتهى السرية لأجل هذه اللحظة. يتذكر صور القصف على بغداد وذلك القذر(شوازكوف) عندما يتحدث عن القنابل الذكية التي استهدفت ذلك الجدار ولم تؤثر على الجدار المقابل، قتلت هنا عراقين أشرار وتركت هناك عراقيين أطهار. كان لا يخلو تصريح أو بيان دون الإشارة إلى أمن اسرائيل التي مارست ضبط النفس الشديد بعد وابل من صواريخ الحسين التي ضربت تل أبيب وحيفا، رغم أنها وصفت حينها بالعبثية ألا أن خالد يحب أي شيء يُدمي ويرعب إسرائيل……. حتى ولو كان عبثيًا!!! والحقيقة أنّ الذين يخوضون معركتها بالنيابة يقومون بها بإخلاص فاق كل التوقعات.
متمترس خلف أزهار الأقحوان الأصفر والبساط الأخضر الذي كسى الأرض في ايبرل 1992، يحتضن سلاحه بين ذراعيه، مُمسكًا به كأنه ولده الذي لن يراه ويحدث خالد نفسه: “لن تمروا، لن تكونوا آمنين”. وكان رفيقيه أيضًا موقنين من تاريخ العمليات التي تمّت في الماضي أن طريقهم في اتجاه واحد. حتى في تدريبات الانسحاب “التكتيكي”، كانوا ينظرون إلى بعضهم وتتفق عيونهم على أمر غير مُعلن، فيبتسمون….. ولا يلقون لها بالًا كثيرًا. من بعيد تظهر مجموعة من السيارات العسكرية الاسرائيلية تسير على مهل نتيجة لوعورة المنظقة، تقترب أكثر وأكثر….. وخالد ورفاقه يكتمون أنفاسهم ينتظرون أن تصبح في مرماهم بحذر وترقب شديدين. وفي لحظة هي الأقرب للموكب يرفع خالد يده كإشارة مُتّفق عليها، يصيح بعالي الصوت بعد أن نهض على قدميه ويهتف جميعهم الله أكبر! الله أ!كبر الله أكبر!. ويبدأ الاشتباك.
صليات من رشاشاتهم أصابت السيارات أو الجنود، أطلق أحدهم قذيفة آربي جي فأصابت سيارة وأشعلت فيها النيران، تعالت الصيحات وتقدموا باتجاه المجموعة يمطرونهم بقنابل يدوية ويتقدمون يالرشاشات، وأزيز الرصاص من فوق رؤوسهم. صيحات الله أكبر تدب الرعب في قلب العدو. طال الاشتباك ولا يزال إطلاق النار مستمرًا وخالد ورفيقيه يتقدمون رغم نفاذ ذخيرتهم، يريدون أن يشتبكوا مع العدو بالأيدي….بالأسنان بأظافرهم. رصاصة في كتفه وأخرى في ساقه ولا يزال يتقدم كالليث المجروح…… ثم أخيرة اخترقت القلب فيعم الهدوء وبرودة الصمت. لم يعد يسمع صياح رفيقيه ولا الرصاص….يسقط على ركبتيه وقد أغرق دمه كل شيء، سال دمه الفلسطيني فروى تراب الجنوب….شعر بنسيم بارد على جروحه كأن هذه الأرض تُضمّد جروحه، تشفق عليه، تعتذر. فلم تحسن أن ترعاه وتحنو عليه فوقها، لتحتضنه الآن في بطنها. بدأ الأفق يُظلم رويدًا رويدًا وهو يغمض عينيه نائيًا عن الدنيا. تمرّ ذكريات المخيم والجيران والجامعة وأمه بثوان معدودة قبل أن يعانق صدره الأرض، يمد يده ليتشبث بشيء فلا يجد سوى التراب…..تظلم الدنيا كليًّا فيبتسم للسماء.
لم تستطع أم خالد النوم، شيء لا تدركه أقضّ مضجعها طيلة تلك الليلة. اشتاقت لخالدها فقد مضت شهور ولم تسمع عنه شيئًا منذ غادر تلك الليلة تاركًا وراءه بضعة دنانير ورسالة…… أنه سيعود!!!
في المخيم، يصيح المنادي في الصباح الباكر في مكبرات الصوت في المساجد نبأ استشهاد خالد، فتُنصب بيوت العزاء، ويُقدّم فيها الحلويات لا القهوة السادة.
بعد أسبوع من “البيان” تخرج أم خالد إلى الشارع فترى صور ابنها قد عُلّقت على جدران المحلات والمساجد والأزقة البائسة وأبواب البيوت المتهالكة. تنظر الى الصورة المعلقة كأنها لقاء، فلم تلمحه منذ غادر ذات ليلة ….تقف أمام الصورة تمعن النظر لا تريد أن ترمش عيناها، وتناجيها: “آه خالد!!! حلمي وقطعة من قلبي، الناس لا يعرفون سوى هذه اللحية والرشاش والبيان العسكري، ليتهم يشعرون ما أكابد! ذكراك في بطني وفي حجري وأمام عيني تكبر ويكبر حلمي، لم يعرفوا أنّ روحي فارقتني عندما فقدتك. لقد انتظرت كثيرًا حتى رأيتك شابًا حلمت بأن أرى أطفالك يشبهوك، أسميهم، كنت سأفاجئك بأنني أخترت لك سعاد ابنة خالتك زوجة لك لأنني أحبها، وكنت أستشعر الغيرة من وقتها، كم احببتك وتمنيت لك حياة أفضل من التي في المخيم. ولكن لا بأس يا حبيبي لا بأس يا عمري! لا بأس يا من ادخرتك لمشيبي، لا بأس!!! فقد اخترت ألّا تشبع من عمرك، وأنا بكل قهري والتياعي وعمق جرحي فخورة بك…. ينظر لك الناس كصورة وبيان ومشهد، أمّا أنت لي عالمي وشريان قلبي. لقد اختارك الموت يافعًا لم تلوثك الحياة، لم يشغلك الأبناء، لم تنحني ذلًّا لاحتياجاتهم. وداعًا يا حبيبي يا روحي، سينساك العالم وأصدقاؤك وجيرانك و”المخيم” ولكن لن تنساك أمك، نم في سلام قرير العين يا حبيبي”.
تتقدم أم خالد إلى الصورة وبعناية شديدة رغم ارتعاش يديها، تنتزعها وتضعها في جيب ثوبها الفلسطيني المُطرز بحكايا الصبر والهجرة، تنسى لماذا خرجت فتعود إلى البيت، وهناك تقص البيان وشعار الفصيل وكل شيء وتبقي صورة ولدها تضعها في خزانتها وتغلق عليها بالمفتاح… تحتقن الدموع في مآقيها، لم تشق الجيوب ولم تلطم الخدود، لم “تولول” لم تصرخ، لم تنتحب ولم تبك….وليتها تستطيع.

اظهر المزيد

اترك رداً

زر الذهاب إلى الأعلى